الاثار البيئية للصناعة و انعكاساتها على التنمية الاقتصادية و الاجتماعية -دراسة حالة مؤسسة وطنية-
مقدمـة عامـة
تفاقمت المشاكل البيئية والاجتماعية في مختلف دول العالم وخاصة المتقدمة منها والنامية في عصر المنظمات الكبيرة والعولمة، ولكي لا تتبعثر الجهود وتضيع المسؤوليات فلا بد من تضامن الجميع، وهذا الأمر يتطلب تطوير النظرة ومن ثم الدور الذي تلعبه منظمات الأعمال في النشاط الاقتصادي من جهة والنشاط الاجتماعي من جهة ثانية، باعتبار أن لها حقوق وعليها التزامات تجاه المجتمع، وبما أنها تتمتع بخيرات المجتمع ضمن مختلف موارده الطبيعية والمادية والبشرية، فلا بد من المساهمة في حل مشاكله ضمن إمكانياتها وقدراتها، وهذا ما يضعنا في موقع الاعتراف بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات جنبا إلى جنب مع المسؤولية المالية لأصحابها.
وفي ضوء ذلك على المؤسسات أن تساهم في تحقيق رفاهية المجتمع عن طريق تحسين الظروف البيئية والحد من الآثار السلبية التي يسببها نشاطها للبيئة المحيطة عن طريق تقليص التلوث وتحقيق التنمية الاقتصادية، وكما أن رعاية شؤون العاملين وتحقيق الرفاهية الاجتماعية لهم والاستقرار النفسي سيخلق عندهم الثقة وحس الانتماء للمؤسسة، فيجعلهم أكثر إنتاجية من خلال تنمية قدراتهم الفنية والإنتاجية وتوفير الأمن الصناعي لهم. وذلك ما تطرق إليه في مؤتمر جوهانسبورغ 2002 حول التنمية المستدامة، حيث تم الإعلان على أكثر من 300 اتفاقية شراكة بين السلطات العمومية والقطاع الخاص كآليات للوصول إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة مكملة للجهود الحكومية، كما عملت مجموعة كبيرة من الشركات الكبرى إلى النشر الطوعي للمعلومات المتعلقة بالأداء البيئي والاجتماعي في تقارير النشاط وهو ما يفسر الإدماج المتزايد للبعد البيئي في إستراتيجية هذه المؤسسات.
كما تهتم دراستنا ببيان دور المعلومات المحاسبية في قياس وتقييم مستوى الأداء الاجتماعي للمؤسسات الصناعية للكشف عن مدى وفاء تلك الوحدات بمسؤولياتها الاجتماعية، حيث إن التطورات الاقتصادية المتسارعة باتت تلزم المحيط المحاسبي بضرورة تعديل النموذج الاقتصادي التقليدي المبني على فلسفة تعظيم الربحية الفردية ليضم أبعاد اجتماعية تمثل الفيصل في جدوى قيام تلك المؤسسات. لأن تحديد وسائل قياس وتقييم الأداء لاجتماعي سيؤدي إلى الكشف عن حجم العوائد الاجتماعية المتولدة من أنشطة المؤسسات الصناعية ويسعى بالتالي إلى توجيه وتحفيز تلك المؤسسات نحو تحقيق المزيد من العوائد أو المنافع لغرض تعظيم هامش الربحية الاجتماعية، وعليه فان التقرير عن نتائج الأداء الاجتماعي للوحدات الاقتصادية بصورة عامة لم يعد خيارا مطروحا بل أصبح ملزم الكشف عنه ضمن تقاريرها السنوية التقليدية وذلك لإظهار مدى قدرة الوحدة على الإيفاء بمسؤولياتها الاجتماعية.
استنادا إلى ما تقدم فقد اتجه البحث نحو مناقشة ماهية المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة وكيفية ترسيخ مفهوم الأداء الاجتماعي والموازنة بين التكاليف والمنافع الاجتماعية، ولغرض إبراز أهمية الفكر النظري لهذه الدراسة فقد تم اختيار عينة البحث الممثلة في مؤسسة آرسيلور ميتال عنابة لاستخدام وسائل القياس المختارة
وتحليل النتائج لتقييم مستوى أدائها الاجتماعي ومن ثم مساهمتها في الربحية الاجتماعية، ما أبرز لنا معالم الإشكالية التي نعمل على معالجتها من خلال الإجابة على التساؤل الرئيسي التالي:
- ما مدى فعالية المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة كمعيار للتنمية المستدامة ؟
ويمكن تجزئة سؤال الإشكالية إلى الأسئلة الفرعية التالية:
- هل تبني المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات ضرورة وطنية تحتاجها متطلبات التنمية الاقتصادية لتحديد موقع مختلف المؤسسات ودورها في الوصول إلى تنمية مستدامة ؟
- هل هناك أدوات ووسائل لتجسيد المسؤولية البيئة والاجتماعية بالمؤسسة ؟
- هل يمكن قياس وعرض عناصر عوائد وتكاليف الأداء الاجتماعي للمؤسسة الاقتصادية ؟
- ما مدى تحمل المؤسسة محل الدراسة (آرسيلور ميتال عنابة) للمسؤولية البيئية والاجتماعية ؟
فرضيات الدراسـة:
- أن تبني المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة ضرورة وطنية تحتاجها متطلبات التنمية الاقتصادية لتحديد موقع مختلف منظمات الأعمال ودورها في حل المشاكل الاجتماعية والبيئية في عصر العولمة واندماج الشركات.
- هناك أدوات ووسائل لتجسيد المسؤولية البيئية والاجتماعية بالمؤسسات.
- أن أغلب عناصر عوائد وتكاليف الأداء الاجتماعي يمكن حصرها وإخضاعها للقياس الكمي بشكل موضوعي ودقيق من خلال مجموعة من الأساليب والمعادلات الخاصة بذلك.
- تلتزم المؤسسة محل الدراسة (آرسيلور ميتال عنابة) بتحمل لمسؤوليتها البيئية والاجتماعية .
أسباب اختيار البحث :
- حاجة و متطلبات البيئة الاقتصادية لمثل هذه الدراسات.
- حداثة الموضوع في ميدان البحث العلمي في الجزائر.
- طبيعة التخصص.
هدف الدراسـة :
يهدف البحث إلى تسليط الضوء على موضوع هام يتعلق بالمؤسسات الاقتصادية والتزاماتها البيئية والاجتماعية بغرض المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة وذلك من خلال إبراز مجموعة من الإجراءات الطوعية، كما يهدف إلى إلقاء الضوء على محاسبة المسؤولية الاجتماعية والوقوف عند أهم مشاكلها، التعرف على معايير تقييم الأداء الاجتماعي القابلة للقياس الكمي والتي تصلح لقياس موقف المؤسسات من خلالها، وفي الأخير محاولة وضع نموذج لتقييم كفاءة الأداء الاجتماعي في منشأة صناعية كدراسة ميدانية.
أهمية الدراسـة :
إن المجال البيئي والاجتماعي غير من مسار واتجاه المنافسة الاقتصادية التي لا تعترف بالقيود الاجتماعية التي كانت كثيرا ما تعتبرها المؤسسات الاقتصادية العائق الذي يخل حركة نموها بدعوى أنه يتنافى و تحقيق الأرباح الاقتصادية، حيث وجدت المؤسسات الاقتصادية نفسها أمام معادلة صعبة الحل هي الموافقة بين الأهداف الاقتصادية والأهداف الاجتماعية لتدخل هذه المؤسسات في دائرة تنافسية جديدة تدرسها إشكاليتنا لتبين حدود ومجالات المسؤولية البيئية والاجتماعية ومدى أهميتها لتحقيق التنمية المستدامة.
حدود الدراسـة :
إن الدراسة التطبيقية تعلقت بمؤسسة آرسيلور ميتال عنابة، ويرجع اختيارها استنادا إلى المعيارين التاليين:
- المؤسسة المختارة تنتمي إلى قطاع يعطي تأثير عملياته نتائج مهمة على موارد المجتمع الاقتصادية والبيئية
- يتسع مجال العمليات المرتبطة بالأداء البيئي والاجتماعي (التي تقوم بها المؤسسة المختارة) ليشمل جل العمليات البيئية والاجتماعية.
أما فيما يخص الإطار الزمني فحددت سنة 2008 كسنة أساس للدراسة لحصر العمليات البيئية والاجتماعية للتمكن من قياسها وعرضها وصياغة نتائج بخصوصها.
منهج الدراسـة :
لدراسة هذا الموضوع استخدمنا المنهج الوصفي والتحليلي، حيث تطرقنا إلى الإطار النظري للتنمية المستدامة، إلى جانب استخدامه كأساس لقياس المسؤولية البيئية والاجتماعية، كما استخدمنا المنهج التجريبي لإسقاط الجانب النظري على واقع المؤسسة محل الدراسة.
ولدراسة هذا الموضوع قمنا بتقسيمه إلى أربعة فصول أساسية وهذا التقسيم كان نتيجة طبيعية لموضوع الدراسـة، حيث في الفصل الأول قمنا بعرض العلاقة بين البيئة والتنمية، بالإضافة إلى توضيح للتنمية المستدامة ( المفاهيم، الأبعاد والمؤشرات ) وبعدها تحدثنا عن الآثار الخارجية للمؤسسة الاقتصادية وتقييم هذه الآثار إلى جانب التطرق للأدوات التقليدية للسياسة البيئية.
في الفصل الثاني أبرزنا ماهية أخلاقيات الأعمال والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسة، أصحاب المصالح، اتجاهات المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة، مسؤولية المؤسسات الاجتماعية في التجربة العالمية، محفزات تطبيق المسؤولية الاجتماعية وآليات تنظيمها.
وفي الفصل الثالث بينا قوانين العمل ومعايير توطين المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة، قياس وعرض المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة وذلك بالتطرق إلى محاسبة المسؤولية الاجتماعية، قياس مؤشرات الأداء البيئي والاجتماعي للمؤسسة، تقديم وقياس كفاءة الأداء الاجتماعي للمؤسسة.
أما عن الفصل التطبيقي وبعد تقديم المؤسسة محل الدراسة تم تحديد أنشطتها ذات المضمون البيئي والاجتماعي ثم تعرضنا إلى قياس وتقييم المساهمات البيئية والاجتماعية للمؤسسة لينتهي الفصل بعرض نتائج القياس وفي الأخير تم توضيح نتائج الدراسة المتعلقة بالجانبين النظري والتطبيقي مرفقة بتوصيات من شأنها أن تجسد خطوة لدراسة هذا الموضوع من جوانب أخرى متعددة.
وخلال إعدادنا لهذا البحث اعترضننا بعض الصعوبات أهمها نقص المصادر التي تعالج موضوع المسؤولية البيئية والاجتماعية للمؤسسة الاقتصادية نظرا لحداثة الموضوع، أما على مستوى الجانب التطبيقي لم يكن بالأمر السهل، حيث كانت المعلومات المتعلقة بموضوعنا موزعة على مستوى عدة جهات الأمر الذي أدى بنا إلى تكرار الزيارات وتكثيف المقابلات للحصول على معلومات كافية تمكننا من إجراء الدراسة وتم هذا بعد طول انتظار لنأخذ في بادئ الأمر مجرد تلميحات وإشارات خاطفة عن أعمال ونشاطات المؤسسة فيما يخص العمليات ذات المضمون البيئي والاجتماعي، إلا أن تدخل المشرف شخصياً بمرافقتنا إلى المؤسسة محل الدراسة والحديث مع المسئولين سهل لنا عملنا بعض الشيء وبإصرارنا استطعنا أن نقطع شوطا للتعرف على ذلك بعد اكتساب المعلومة والمعرفة بشأنه بقدر ما أمكن وتقديم البحث.
الفصل الأول
دراسة الآثار الخارجية للمؤسسة الاقتصادية في ظل التنمية المستدامة
تمهيـد:
شغلت قضية التنمية المتواصلة بيئيا اهتمام الكثير من المفكرين في جل التخصصات العلمية بسبب الآثار السلبية الناتجة عن التنمية المنتهجة خاصة في المجال الصناعي لتلوث التربة والهواء والماء، والتي أثرت بشكل كبير على صحة الإنسان وحياته وحياة الكائنات الحية الأخرى.
وتيقن العالم اليوم أكثر من ذي قبل أن المشكلات البيئية والاجتماعية تولدت كنتيجة حتمية للطريقة التي انتهجت لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مما تطلب التفكير في نوع جديد من التنمية يراعى فيها شروط المحافظة على البيئة والاستقرار الاجتماعي في إطارهم المتوازن، وهي ما تسمى بالتنمية المستدامة.
لذا أصبحت تلك المشاكل تكتسي أهمية كبيرة على كافة المستويات وبالتالي انشغلت بها جميع الدول وانعقدت من أجلها العديد من المؤتمرات المحلية والدولية، واهتم بها الكثير من المفكرين والعلماء وحتى عامة الناس، ونحن في فصلنا هذا نحاول تقديم كيف تكون هناك تنمية اقتصادية تتلاءم مع أهداف التنمية المستدامة في الحفاظ على البيئة وتحقيق عدالة اجتماعية من خلال التطرق إلى المباحث التالية:
- التنمية المستدامة ( طبيعتها، تطور مفهومها، مقوماتها وأبعادها)
- الآثار الخارجية وتعظيم الرفاهية الاجتماعية ( نظرية الآثار الخارجية، تقييم الآثار البيئية، الفوائد الهامشية والتكاليف الهامشية للتطورات التطورات البيئية).
I-1 التنمية المستدامة
I-1-1 طبيعة التنمية المستدامة وتطور مفهومها
سنتناول في هذا الفرع طبيعة وتعريف التنمية المستدامة ومراحل تطور مفهومها التاريخي.
I-1-1-1 طبيعة التنمية المستدامة
ماذا تعني الاستدامة ؟ وما هي التنمية المستدامة ؟ من أجل الإجابة على هذين السؤالين يجب أن نبدأ بملاحظة أن واحدة من أكبر مشكلات التواصل بين الفلاسفة وعلماء البيئة وعلماء الاقتصاد هي أنهم جميعًا لديهم فهم ضعيف نسبيًا لمفاهيم بعضهم البعض، وبشكل عام :
• النظرية الاقتصادية تساهم من خلال التركيز على الكفاءة الاقتصادية وحقوق الموارد.
• النظرية البيئية تساهم من خلال التركيز على تشغيل النظم البيئية و المحافظة على التكامل البيئي.
• نظرية العدالة والمواقف الأخلاقية التي تحيط بها تساهم من خلال التركيز على العواقب التوزيعية لبدائل السياسات.
إن الاستدامة تعنى بهذه النظريات الثلاث ، حيث استخدم مصطلح الاستدامة للتعبير عن طبيعة العلاقة بين علم الاقتصاد Economy وعلم الايكولوجي Ecology على اعتبار أن العلمين مشتقان من نفس الأصل الإغريقي ، ونقتبس النص التالي من المفوضية العالمية للبيئة والتنمية (1987): "تشمل التنمية المستدامة ما يزيد على النمو. فهي تتطلب تغيرًا في محتوى النمو بحيث يصبح أقل مادية واستخدامًا للطاقة وأكثر عدالة في تأثيراته. ويجب تحقيق هذه التغيرات في جميع الدول كجزء من مجموعة الإجراءات للمحافظة على رأس المال البيئي ولتحسين توزيع الدخل وتخفيض درجة الحساسية للأزمات الاقتصادية.
حيث كان الاعتقاد حتى بداية السبعينات من القرن الماضي، أن النمو الاقتصادي يقوم على حساب حماية البيئة، وأنه لا يمكن الجمع بين هذين التوجهين، وأن أي تحسين في نوعية البيئة يعني إعاقة النمو الاقتصادي، كما أن أي نمو اقتصادي يعني القضاء على البيئة وتدميرها.
ومع الكوارث التي شهدها العالم في تلك الفترة، فسح تدريجيا المجال للعمل على تحقيق المزيد من السلام والعلاقات بين الاقتصاد والطبيعة، والذي يسعى إلى التوفيق بين التنمية والحفاظ على البيئة. لأنه من غير الممكن العمل على وقف النمو، وإنما للتأثير في مضمونه وتوجيهه على نحو مستدام.
لنلقِ نظرًة أعمق على الآراء المختلفة المتعلقة بالتنمية المستدامة :
أ- علماء الاقتصاد
من أجل إلقاء الضوء على مبدأ التنمية المستدامة من وجهة النظر الاقتصادية من المهم أن نميزها عن المفاهيم الأخرى ذات العلاقة مثل : النمو الاقتصادي – النمو الاقتصادي المستدام – التنمية الاقتصادية .
• النمو الاقتصادي : هو زيادة حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي مع مرور الوقت .
وهذا لا يعني أن التنمية التي تلاحظ في أي وقت من الأوقات هي تنمية "مستدامة" .
• التنمية الاقتصادية : هي مفهوم أوسع من مفهوم النمو الاقتصادي فهي تضم مفاهيم "التنمية ":
- تحسين نوعية حياة السكان وخاصة الفقراء منهم، وتصبح زيادة الدخل هي العامل الأساسي هنا .
- تحسين المهارات والمعرفة والإمكانات والخيارات .
- تحسين الحقوق المدنية والحريات مثل الاستقلالية وحقوق التمثيل السياسي .
إن هذا التعريف لا يتضمن الأفكار المتعلقة بالاستدامة البيئية، وقد لفت علماء الاقتصاد البيئي اهتمام علماء الاقتصاد التقليديين إلى الأفكار المتعلقة بتعريف النمو بعدة طرق تتضمن قيمة الأصول البيئية وأهمية المحافظة على الخدمات البيئية الأساسية ورأس المال الطبيعي، وتمثل التعريفات التالية التي وضعها علماء الاقتصاد البيئي هذه المفاهيم بشكل ملائم :
"التنمية الاقتصادية المستدامة تنطوي على تعظيم المكاسب الصافية من التنمية الاقتصادية شريطة المحافظة على الخدمات ونوعية الموارد الطبيعية على مرور الوقت" (بيرس و زملاؤه – 1987)
"التنمية الاقتصادية المستدامة ... تشير إلى الحد الأمثل من التداخل بين نظم ثلاث : البيئي والاقتصادي والاجتماعي من خلال عملية تكيف ديناميكية للبدائل" (باربيير – 1989)
وتضم البدائل التي يعرفها باربيير استبدال رأس المال الطبيعي برأس المال الاصطناعي إلى حد أن الأجيال المستقبلية لا تزال تتوارث نفس القدر من رأس المال.
ب – علماء البيئة
قد يشير علماء البيئة والموارد والأحياء إلى أن المحيط الحيوي هو الذي يحتاج لأن يكون مستدامًا، وهم يبحثون عن حماية التنوع الحيوي والوراثي بالدرجة الأولى، ومن علماء البيئة الذي كرسوا اهتمامًا كبيرًا لمبادئ التنمية الزراعية المستدامة هو جي كونواي الذي يعالج مفهومه للاستدامة ميل النظام لمقاومة الانهيار في أزمة ما،وهو يتعلق بصلابة أو استمرارية النظام :
"الاستدامة هي القدرة على المحافظة على الإنتاجية سواء أكانت كحقل أو مزرعة أو أمة في وجه الأزمات أو الصدمات" (كونواي و باربيير – 1990).
إن بعض النظم الزراعية منتجة بشكل كبير ولكنها تتعرض لخطر كبير يتعلق باستدامته، وإن علماء البيئة قلقون بشأن الزراعة الصناعية التي تصبح عرضة أكبر للخطر من حيث الاستدامة نظرًا لتزايد اعتمادها على قاعدة وراثية أضيق مما كانت عليه في أي وقت مضى، لذا فيركز الكثير من علماء البيئة على الحاجة لحماية التنوع الوراثي من خلال حماية المناطق الطبيعية التي تحتوي على أصناف محتملة أو المحافظة على البنوك الصناعية للمواد المتجددة .
ومع ذلك فمن المهم أن لا نعمد إلى التصنيف أو التعميم المفرط حول مفهوم النظم الزراعية الحديثة الأقل استدامة والأكثر إضرارًا بالبيئة الطبيعية حيث أن هذه الحالات هي حالات استثنائية، كما يجب توضيح كيفية قياس الاستدامة وكيفية اتخاذ القرارات والأحكام بين أنماط مختلفة من الاستدامة.
إن المسائل الأكثر تطورًا تتساءل حول ما إذا كان النمو مطلوبًا من وجهة النظر البيئية، حيث يناقش التعريف التالي من ناحية الديناميكا الحرارية فكرة أن "عدم النمو" أمر مفضل :
"إن التنمية المستدامة التي تعتمد على الأنماط السائدة من استخدام الموارد غير قابلة للفهم حتى من الناحية النظرية ... إن التعريف الجديد للتنمية المستدامة ... هو التنمية التي تقلص استخدام الموارد إلى الحد الأدنى وتزيد الإنتروبيا العالمية" (رييز – 1990)
ومع ذلك يشير الكثير من علماء البيئة إلى أن "عدم النمو" لا يشكل حلا ملائمًا. ويمكن لبعض النمو أن يساعد على منع التدهور البيئي ، لذا فهو أمر مطلوب مثل تطوير "التقنيات النظيفة" (مثل الطاقة الشمسية، ولكن يجب تجنب التقنيات والنمو الذي يضر بالبيئة.
ويشير علماء البيئة إلى أن علماء الاقتصاد بحاجة للمزيد من الاهتمام بالنواحي البيئية والأخلاقية،كما أن تعبير "التنمية المستدامة" يشير إلى أن دروس البيئة يمكن (بل يجب) أن تطبق على العمليات الاقتصادية، وهي تشمل أفكار إستراتيجية الحماية العالمية التي توفر مبررًا بيئيًا يمكن من خلاله تحدي واختبار دعوات التنمية لتطوير نوعية الحياة" (ريديليفت 1987)
ج- علماء الاجتماع والباحثين في مجال علوم الإنسان
قد يؤكد علماء الاجتماع وعلوم الإنسان على طلبات البيئة التي تحددها الثقافة، فعلى سبيل المثال فإن الرغبة في استهلاك اللحم و الأغذية الزراعية يشجع في بعض الأحيان القضاء على الغابات وتدهور التربة، بينما الرغبة في استهلاك السمك فقد تضغط على البيئة البحرية، ويتم التركيز على استدامة النظم الثقافية والبشرية بما فيها قبول نظريات البيئة، حيث نجدهم يسألون "هل المؤسسات المستخدمة لإدارة البيئة تخضع للرقابة المحلية وهل تمكنت من مواجهة الاحتياجات المحلية؟" وهذه مسألة إضافية يطرحها علماء الاجتماع .
وقد يذهب بعض النقاد إلى أبعد من كل التعريفات الواردة أعلاه حيث يقولون أن ما يقترحون استدامته فعلا هو التقسيم الدولي للثروة القوة مما يفرض طلبات بيئية مختلفة و غير متساوية على الدول الغنية والفقيرة. وإذا ما فرض المستقبل المزيد من الطلبات من خلال التوزيع العالمي الحالي للموارد وأنماط الاستهلاك السائدة فمن غير المحتمل أن تكون تلك الموارد مستدامة، كما أن العوامل الاقتصادية والسياسية السائدة التي تشجع على التدهور البيئي بحاجة لمعالجة، وكذا يجب أن يكون هناك إعادة توزيع للثروة في العالم، وعندئذ فقط يمكن أن تصبح التنمية المستدامة إمكانية واقعية على المستوى العالمي .
مما سبق نلاحظ أنه ظهرت عدة تعريفات واستخدامات للتنمية المستدامة، فالبعض يتعامل مع التنمية المستدامة كرؤية أخلاقية تناسب اهتمامات وأولويات النظام العالمي الجديد، والبعض يرى أن التنمية المستدامة نموذج تنموي وبديل عن النموذج الصناعي الرأسمالي، أو ربما أسلوباً لإصلاح أخطاء وتعثرات هذا النموذج في علاقته بالبيئة، أنها التنمية المتجددة والقابلة للاستمرار والتنمية التي لا تتعارض مع البيئة. ولكن هناك من يتعامل مع التنمية المستدامة كقضية إدارية وفنية بحتة للتدليل على حاجة المجتمعات الإنسانية المتقدمة والنامية إلى إدارة بيئية واعية وتخطيط جديد لاستغلال الموارد، وسنتناول التعاريف التي تتسم بالمرجعية والتي من أهمها:
مفهوم Gro Harlem Brundtland المقدم للجنة الأمم المتحدة للبيئـة والتنمية في عام 1987 تعتبر كأول من استخدم مصطلح التنمية المستدامة بشكل رسمي، والتي عرفتها على أنها "التنمية التي تلبي احتياجـات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها". حيث أن هذا التعريف لزم مفهومان: مفهوم الحاجة وخاصة الاحتياجات الأساسيـة للفقراء ، الذين ينبغي أن تعطى لهم الأولوية القصوى ، وفكرة القيود التي تفرضها الدولة من التقنيات والتنظيم الاجتماعـي الذي فرض على قدرة البيئة لتلبية الاحتياجـات الحالية والمستقبلية.
ولقد عرفت التنمية المستدامة من طرف الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعـة سنة 1980 بأنها "التنميـة التي تأخذ في الاعتبار البيئة والاقتصاد والمجتمع ".
أما البنك الدولي فيعتبر نمط الاستدامة هو رأس المال، وعرف التنمية المستدامة بأنها " تلك التي تهتم بتحقيق التكافؤ المتصل الذي يضمن إتاحة نفس الفرص التنموية الحالية للأجيال القادمة وذلك بضمان ثبات رأس المال الشامل أو استمرارية زيادته عبر الزمن ".
كما عرف المبدأ الثالث الذي تقرر في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية الذي انعقد في ريو (Rio) سنة 1992التنمية المستدامة بأنها " ضرورة انجاز الحق في التنمية" ، حيث يتم تحقيق تساوي بين الحاجات التنموية والبيئية لأجيال الحاضر والمستقبل.
حسب تقرير الإتحاد العالمي للمحافظة على الموارد الطبيعية الصادر سنة 1981 تحت عنوان (الإستراتيجية الدولية للمحافظة على البيئة) فإن التنمية المستدامة هي السعي الدائم لتطوير نوعية الحياة الإنسانية مع الأخذ بالاعتبار قدرات النظام البيئي الذي يحتضن الحياة وإمكاناته. حيث انه من البداية عرفت حركة التنمية المستدامة تيارين أو حركتين عرفتا باسم حركة الاستدامة الضعيفة وحركة الاستدامة القوية، سنفصل في مضمون ومبدأ كل حركة في العنصر التالي.
I-1-1-2 حركات التنمية المستدامة
لقد كانت حركة الاستدامة البيئية منذ بدايتها منقسمة على نفسها كمعظم الحركات الاجتماعية الأخرى إلى جناح معتدل عرف أحيانا "بحركة الاستدامة الضعيفة weak sustainability" وآخر ثوري عرف أيضا "بحركة الاستدامة القوية strong sustainability"، ومع أن أجندة التنمية المستدامة في الوقت الحاضر تعكس انتصار الجناح البيئي المعتدل أو الإصلاحي حيث أصبح الوجه الأكثر قبولا من الفكر البيئي لدى الساسة والحكومات في الدول الصناعية المتقدمة ، إلا أن الجناح الثوري من الحركة البيئية قد ناضل بدرجة أكبر من أجل الاهتمام بجوانب العدالة والديمقراطية للخطر البيئي مؤكدا على أن العالم المستدام يجب أن يكون عالم أكثر تساويا.
أ- الاستدامة القوية :
ينظر أنصار الاستدامة القوية(المتمركزة حول البيئة) للأرض كمورد ناضب غير متجدد ومن ثم يزعمون أنه ليس هناك مستقبل بيئي ممكن إلا إذا تم تعديل جذري على جانب الطلب من المعادلة من خلال إعادة التفكير في موقفنا تجاه الطبيعة فضلا عن فكرتنا عن التقدم الاقتصادي والتنمية.
ولذلك تؤكد وجهة النظر هذه المعروفة أيضا بالمذهب الإيكولوجي (الذي يهتم بدراسة العلاقة بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها) "المتمركزة حول البيئة" بأنه لابد من حدوث ثورة في النموذج الإرشادي المهيمن إذا ما أريد إنقاذ كوكب الأرض من الفساد البيئي، وتبعا لذلك فإن هذه النظرة ترى أنه لابد أن نعمل على تكييف أنفسنا للحفاظ على الطبيعة المهددة بالفناء بدلا من تكييف الأرض لتناسب احتياجاتنا، وقد تسبب إصرار أنصار هذا الاتجاه على إحداث تغير بنائي وثقافي في إثارة مخاوف كل من قطاع الأعمال والساسة وأولئك الناس الذين كانوا يرغبون في حلول جزئية للمشاكل البيئية، وقد مثل هذا التوجه حركة الرفض ضد سياسات وممارسات الشركات والحكومات المتعلقة بالبيئة في الدول المتقدمة.
ونتيجة لذلك يركز أنصار الجانب الأقوى للاستدامة على تغيير المطالب تجاه الأرض ويتبنون فهما مختلفا للتنمية المستدامة، حيث يعمدون إلى التأكيد على الاستدامة الإحيائية (البيولوجية) كشرط أولي لأي تنمية، بدلا من التركيز على التأثير الإنساني على استراتيجيات التنمية، ومن ثم ينظر للتنمية المستدامة كوسيلة لتحسين نوعية الحياة الإنسانية مع العيش ضمن حدود القدرة الاحتمالية للأنساق الحيوية للأرض.
ويندرج تحت حركة الاستدامة القوية هذه عدة فروع للفلسفة البيئية ومنها الفلسفة الإيكولوجية العميقة deep ecologyالمتمركزة حول المجال الحيوي(biocentrism) ، والفلسفة الإيكولوجية النسوية (ecofeminism) التي تعبر عن تنمية مستدامة (متمركزة حول المرأة) .
وباختصار، تكون الاستدامة قوية إذا وقع حقل النشاطات الاقتصادية ضمن مجال النشاطات الإنسانية وهذه الأخيرة تكون ضمن الدائرة البيولوجية، وعليه فالنشاطات الاقتصادية تنمو بشكل متضائل على المدى الطويل إذا تم الإضرار بالطبيعة بأضرار جسيمة، كما يوضحه الشكل التالي:
الشكل رقم(I-1) : الاستدامة القوية (الغطاء البيئي)
المصدر :عبد الله الحرتسي حميد، السياسة البيئية ودورها في تحقيق التنمية المستدامة، ص 27
يوضح الشكل أن إمكانيـة التوسع نحو الخارج في التنمية الاقتصاديـة والاجتماعيـة يجب أن يتم في إطار الحدود البيئية، لهذا فالاستدامـة القويـة ترفض فكرة إحلال بين مختلف أشكال رأس المال البشري، المالي، التكنولوجي ... وتدعم ضرورة بقاء على الأقل جزء من مخزون رأس المال الطبيعي ثابتا.
ب- الاستدامة الضعيفة :
تزعم حركة الاستدامة الضعيفة التي عرفت أيضا "بالبيئية الضحلة" “shallow environmentalism” بأن هناك حاجة لتوسيع نطاق المخزون من الموارد وأن هذا يمكن تحقيقه من خلال تطوير موارد متجددة، وإيجاد بدائل للموارد غير المتجددة، والاستخدام الأمثل للموارد الحالية أو البحث عن حلول تكنولوجية لمشاكل من قبيل نفاد الموارد والتلوث. وفي القلب من هذا الخطاب يكمن تفاؤلا ضمنيا يتمثل في الثقة بأن البشر سيجدون حلا لكل مشكلة بيئية تبرز على السطح، كما سيكونون قادرين على تعزيز مخزون الموارد وذلك لأن التقدم التقني كما يفترض سيمكن البشر من التحكم في الأرض لتلبية مطالبهم المتنامية، ومن ثم فإن أي مشكلة تظهر ستحل من خلال التطور التقني، ويجادل أنصار هذا الموقف بأن أسباب الأزمة البيئية التي يعيشها كوكب الأرض لا تكمن في قيم نموذج الحداثة المهيمن و المتمركز حول البشر ولا في معاييره أو مؤسساته وممارساته، بل أن تلوث الماء والهواء ونفاد الموارد الطبيعية وتناقص التنوع البيئي والفقر وحالات عدم المساواة هي نتيجة للجهل والجشع والممارسات الحمقاء في التعامل مع البيئة ومن ثم يمكن كبح مثل هذه الممارسات الحمقاء الملامة خلقيا عبر سن تشريعات وتغيير السياسة العامة، وزيادة التعليم، وتغيير القوانين الضريبية، وإعادة الأراضي العامة إلى مالكيها ......، والتأكيد على الإلزامات الخلقية نحو الأجيال المستقبلية، وتشجيع الإدارة الحكيمة للطبيعة وتشجيع آخر لاستخدام رشيد للموارد الطبيعية.
الشكل رقم(I-2): الاستدامة الضعيفة (الغطاء الاقتصادي)
المصدر: عبد الله الحرتسي حميد، السياسة البيئية ودورها في تحقيق التنمية المستدامة، ص 28
يوضح الشكل كيف يمكن التوسع على حساب رصيد الموارد البيئية شريطة بقاء رصيد رأس المال الشامل ثابتا من خلال اتجاه عمليات التنمية نحو الداخل.
ولا شك في أنه ينظر لمفهوم التنمية المستدامـة على أنه براءة اختراع من قلب الظلام لنادي روما، بالنسبة للبعض، فإن النظام الليبرالي المتأصل قد أثبت قدرته على التحرك في اتجاه يحترم القيود البيئية. وهكذا وكنتيجة للتقدم التقني والتغييرات الهيكلية، فقد ارتفعت قيمة الناتج المحلي الإجمالي للطاقة والمواد لبلدان منظمة التعاون والتنمية وقد تحسنت بشكل كبير، ولذلك فليس هناك أي لبس في وجود علاقة بين النمو والتلوث، إذ المهم والضروري لتشكيل البنية التحتية للاقتصاد يتبعه كنتيجة منطقية استخدام الطاقة والموارد المعدنية، ولكن في وقت لاحق من مراحل التنمية ستكون هناك كفاءة أكبر للتسيير الأمثل والمستدام للمواد الخام.
وترتكز فلسفة التنمية المستدامة على أن الاهتمام بالبيئة وما تحتويه من موارد طبيعية هو أساس التنمية الاقتصادية والصحية والثقافية وغيرها، وهذا يتطلب إعداد خطط تنموية تهتم بالمشروعات الحالية وتهتم بآثارها البعيدة على البيئة وعلى الناس في المستقبل، وبذلك تستمر التنمية. وتلك الخطط لا تشمل فقط دور الدول والمؤسسات في المشروعات التي تقيمها وإنما تشتمل أيضاً على دور الفرد في المجتمع، لأن الفرد أساس المجتمع.
I-1-1-3 تطور مفهوم التنمية المستدامة
لقد تطور مفهوم التنمية المستدامة مع نهاية القرن 20م عن طريق انعقاد عدة مؤتمرات وظهور منظمات لأجل الحد من سرعة التلوث واستنزاف الموارد الطبيعيـة الناتجة عن الارتفاع المستمر للنمو الديموغرافي والاقتصادي والأنماط الاستهلاكية للدول المصنعة ، ولقد كان أهمها مايلي:
كأول فكرة لظهور التنمية المستدامة تم إنشاء نادي روما سنة 1968م من قبل علماء ومفكرين من عدة دول، حيث دعا إلى ضرورة إجراء أبحاث تخص مجالات التطور العلمي لتحديد حدود النمو في الدول المتقدم.
وبعدها خلال سنة 1970م ظهرت عدة تساؤلات أولية حول استدامة النمو بالمقارنة مع الكميات المتاحة للموارد الطبيعية.
في سنة 1972م ينشر نادي روما تقريرا مفصلا حول تطور المجتمع البشري وعلاقة ذلك باستغلال الموارد الاقتصادية تحت عنوان توقيف النمو (النمو صفر)، حيث سجلت تدهور حالة النظام البيئي، ومن أهم نتائجه أنه سيحدث خللا في القرن21م بسبب التلوث وتعرية التربة، وأن استمرار التنمية الاقتصادية على المدى الطويل لا تتفق مع حماية كوكب الأرض .
وفي 27 أفريل 1987 قدمت اللجنـة الدوليـة للبيئـة و التنميـة التابعـة للأمم المتحدة تقريرا من قبل لجنة برونتلاند (Brundtland) بعنوان " مستقبلنا المشترك "، بحيث استخدم مصطلح التنميـة المستدامة ، وقد عرفتها بأنها "التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها"، ويقدم التقرير حماية البيئة على أنها من الأولويات على الصعيد الدولي.
هذا التاريخ يمثل بداية لهذا المفهوم في المجال السياسي وعلى غرار الكوارث الطبيعيـة التي حدثت في العالم مثل حادثـة تشرنوبيل، انعقد في جوان 1992 مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية المستدامة في ريو(Rio)، والذي سمي بمؤتمر قمة الأرض. في حضور الآلاف من الجمعيات، 173 دولة وقعت على برنامج عمل للقرن الحادي والعشرين(21)، ويحدد التقرير ثلاثة أهداف رئيسية لهذا المفهوم وهي:
1- الكفاءة الاقتصادية
2- حماية البيئة
3- العدالة الاجتماعية
حيث خلصوا إلى أن مستقبل كوكبنا يقوم على التضامن المزدوج الذي لا بد لنا من البدء فيه من خلال :
1- التضامن في الوقت المناسب ، أي بين الأجيال مع احترام حقوق الملكية الفكرية.
2- التضامن بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، وذلك بوضع آلية تمويل للأنشطة التنفيذية للمبادئ المعلنة في الدول النامية التي تفتقر إلى موارد مالية إضافية لدمج البعد البيئي في سياساتها الإنمائية.
وفي ديسمبر 1997 انعقد مؤتمر كيوتوKyoto الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى الحد من انبعاث الغازات الدافئة، ويعتبر كخطوة مهمة لمحاربة ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث أن 38 دولة صناعية أمضت على المعاهدة وبدأت العمل بالمعايير اللازمة للحد من الحجم الكلي لغازاتها المنبعثة في الجو، وتتحدد أهداف البروتوكول المرتبطة بالتنمية المستدامة في تحسين كفاءة استخدام الطاقة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وزيادة استخدام نظم الطاقة الجديدة والمتجددة والبديلة، بالإضافة إلى زيادة المصبات المتاحة لامتصاص الغازات الدافئة.
في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا سنة 2002 انعقد مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة، حضر المؤتمر أكثر من 100رئيس دولة وعشرات الآلاف من المتخصصين في مجالات البيئة و التنمية، يهدف المؤتمر إلى تأكيد الالتزام الدولي بتحقيق التنمية المستدامة باتخاذ قرارات مهمة حول الصحة، الزراعة، المياه،الطاقة والتنوع البيولوجي، وذلك من خلال:
1- تقويم التقدم المحرز في تنفيذ جدول أعمال القرن 21 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والبيئة (Rio) عام 1992.
2- توضيح واستعراض التحديات والفرص التي يمكن أن تؤثر في إمكانات تحقيق التنمية المستدامة؛
3- إعطاء واقتراح الإجراءات المطلوب اتخاذها والترتيبات المؤسسية والمالية اللازمة لتنفيذها؛
4- تبيان وتحديد سبل دعم البناء المؤسسي اللازم على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.
ولقياس مدى تطور الاهتمام الدولي بتطبيق الأجندة 21 على المستوى المحلي ربما يكفي أن نشير أنه في عام 1997 تم وضع 1812 خطة محلية في 64 دولة، في حين أنه ببداية عام 2002 كانت 6416 حكومة محلية في 113 دولة قد دخلت ضمن فعاليات الأجندة 21 وكان 44 % من البلديات في هذه الحكومات قد بدأت بتطبيق برامج الأجندة 21.
وبناء على ذلك، تقع على عاتقنا مسؤولية جماعية بتعزيز وتقوية أركان التنمية المستدامة المترابطة والمتداعمة وهي التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة، على الصعيد المحلي والوطني والإقليمي والعالمي.
ونخلص مما سبق أن مفهوم التنمية المستدامة يشير إلى قيمة أخلاقية في غاية الأهمية، وهذه القيمة هي المساواة بين الأجيال التي أصبحت أحد أهداف الإدارة البيئية، كما ننبه كل دولة إلى أهمية استثمار مواردها.
I-1-2 المقومات الأساسية للتنمية المستدامة
لابد من توفر عدد من المقومات لإرساء مفهوم التنمية المستدامة والتي تشكل مرتكزاتها وأهمها:
I-1-2-1 المقومات البشرية
فالإنسان هو المسئول الأول وحامل الأمانة، حيث توضح أجندة القرن الحادي والعشرين أنه نتيجة للنمو السريع في عدد سكان العالم فإن أنماط استهلاكهم تتزايد للأرض والماء والطاقة والموارد الطبيعية الأخرى، لقد كان عدد سكان العالم أقل من 5,5 بليون عام 1993م ومن المتوقع أن يصل إلى 8 بليون عام 2025 وينبغي على استراتيجيات التنمية أن تتعامل مع النمو السكاني، وصحة النظام البيئي، ووسائل التكنولوجيا واستخداماتها المتقدمة، كما ينبغي أن تتضمن الأهداف الأولية للتنمية محاربة الفقر، وتأمين الحياة البشرية، والسعي لنوعية حياة جديدة متضمنة تحسين أوضاع المرأة، وتأمين الحاجات الأساسية مثل الغذاء والمأوى، والخدمات الأساسية مثل التعليم وصحة الأسرة، وإعادة تشجير الغابات، وتوفير فرص العمل، والرعاية البيئية.
كما ينبغي أن تكون اهتمامات السكان جزءاً من استراتيجيات التنمية المستدامة، ويجب على الدول أن تحدد لها أهدافاً وبرامج سكانية، واضعة في الاعتبار أن التكوين الهرمي للسكان والذي تزداد فيه نسبة صغار السن، سوف يخلق في المستقبل القريب مطالب وضغوطاً على الموارد. وتطالب أجندة القرن الحادي والعشرين من الدول أن يتعرفوا على القدرات الاحتمالية لمواردهم، مع إعطاء اهتمام خاص للموارد الحرجة مثل المياه والأرض، والعوامل البيئية الأخرى، كصحة النظام البيئي، والتنوع الإحيائي (والقدرة الاحتمالية تعني مقدرة الموارد على إعالة وتقديم احتياجات البشر بدون إهدارها أو استنزافها )، كما تنبه أجندة القرن الحادي والعشرين إلى أن العالم يحتاج إلى دراسات جادة للتنبؤ بالنتائج المحتملة للأنشطة البشرية، متضمنة اتجاهات السكان، ونصيب كل فرد منهم من الناتج الإجمالي للدخل، وتوزيع الثروة، والهجرات المنتظرة نتيجة للتغيير المناخي.
حيث في عام 2001 حسب إحصائيـات صندوق الأمم المتحدة للسكان، بلغ عدد سكان دول العالم الإسلامـي الأعضاء في منظمـة المؤتمر الإسلامي نحو مليار و144 مليون نسمة، وهم يشكلون نحو %18 من جملـة عدد سكان للعالم في نفس السنة، وما يوازي عدد سكان المناطق الأكثر نمواً في العالم ( الدول المتقدمة) والتي يبلغ عدد سكانها نحو مليار و193 مليون نسمة، بينما يشكلون نحو %23,3 من سكان المناطق الأقل نمواً، والتي يشكل سكانها نحو أربعـة مليارات و 940 مليون نسمة ونتيجة لارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية لمعظم الدول الأعضاء في منظمـة المؤتمر الإسلامي والتي تبلغ ما بين 2,5 و%3 سنوياً (40 دولة من 48 دولـة) وأيضاً ارتفاع نسبة صغار السن أقل من 15 سنـة، وسيادة النمط الزراعي في معظم اقتصاديات هذه الدول، فإن الإسقاطات السكانية لها مرتفعـة، ويتوقع أن يصل عدد سكان هذه الدول عام 2025 مليار و699 مليون نسمة، وفي 2050 مليارين و227 مليون نسمة.
ويقدر الخبراء أنه من الخطأ اعتبار الزيادة السريعة في عدد السكان نعمة مطلقة، أو نقمة مطلقة، فبالتحليل الموضوعي نجد أن تأثير الزيادة يختلف من بلد لآخر حسب الظروف المحلية، واحتياجاته، وموارده وتطلعاته، فهناك دول تحتاج إلى الزيادة السكانية، وعندها من الموارد الكافية لاستيعابها، وهناك بلاد قد تؤدي الزيادة السكانية فيها إلى آثار سلبية، لقلة الموارد، والمهم أن يكون للدولة سياسة سكانية مدروسة ولا يترك النمو السكاني فيها بدون تخطيط.
I-1-2-2 المقومات الطبيعة
ونقصد بها المحيط الحيوي، وهو خزانة طبيعية مكونة من موارد متجددة وموارد غير متجددة، حيث أن: الموارد المتجددة وتتمثل في الغابات، مصائد الأسماك، المراعي والمزارع...الخ، ويعد الإنسان عنصراً رئيساً من عناصر استهلاك تلك الموارد، وإنتاج الموارد السابقة هو إنتاج متجدد ما استمرت صحة النظام البيئي.
الموارد غير المتجددة وهي مواد مختزنة في باطن الأرض تكونت وتجمعت في عصور سابقة وسحيقة، ما يؤخذ منها لا يعوض ولا يتجدد، وتضم هذه المجموعة خامات البترول، الفحم، الغاز الطبيعي، رواسب المعادن وتكوينات المحاجر غالبية المياه الجوفية.
إن ترشيد وتنمية الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة نقيض استنزافها، أي تجاوز قدرة النظم البيئية على العطاء، وهذا الترشيد هو الإدارة البيئية السليمة، ونعني بها تلك الإدارة التي تساهم في تحقيق التنمية المستدامة بالاستخدام الفعال لكل الأدوات الممكنة من تشريعات وقوانين البيئية، تقييم الأثر البيئي، قاعدة المعلومات البيئية وغيرها، لضمان استمرارية تلبية الحاجات عن طريق الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة، بطريقة سليمة ودون إهدار وفي إطار القيود البيئية، لأن عهد الثورة الصناعية قد مضى وحالياً في عهد الثورة العلمية الثالثة حيث أصبحت مقومات الاقتصاد هي الفكر والعلم والابتكار ." فقد أصبحنا نتكلم الآن عن زراعة بلا زراع وبلا مزارع"، وعلى سبيل المثال ففي مادة الثوماتين Thaumatin وهي موجودة في فاكهة إحدى النباتات الأفريقية والتي تعادل حلاوتها حلاوة السكر مائة ألف مرة، إستطاع العلماء عن طريق تكنولوجيا جديدة هي فصل أو تقطيع الجينات Gene Splicing Techniques أن يفصلوا الجين الخاص بهذه المادة، وأن ينتجوه معملياً بكميات تجارية في معامل بكتيرية، وتستطيع أن تتصور حجم هذه الزراعة العلمية المعملية على إنتاج قصب السكر والبنجر في مختلف أنحاء العالم، وأثر ذلك على العمالة الموجودة حالياً في المزارع، وأثر ذلك على الأرض التي كانت تستغل في هذا الشأن.
I-1-2-3 المقومات التكنولوجية
تتعارض التنمية المستدامة مع التكنولوجيا المضرة بالبيئة، وعليه لتحقيق التنمية المستدامة لا بد من إعادة توجيه التكنولوجيا المستخدمة مما يجعلها أكثر ملائمة للبيئة وذات استخدام أقل للموارد والطاقة وتوليد قدرا أقل من التلوث والنفايات.
ولأن التطور التكنولوجي أصبح مترسباً في نسيج المجتمعات وفي حياة الناس اليومية، فقد تعين على الدول النامية أن تستورد تكنولوجيا نظيفة ملائمة لبيئتها المحلية، وأن تعمل باستمرار على تطوير قدراتها الذاتية، فيما يتعلق بالتعامل مع التكنولوجيا مما يجعلها تكسب قدرات ومهارات تقنية تؤمن لها في نهاية المطاف القدرة على تطوير وإنتاج تكنولوجيا محلية نظيفة. حيث سادت في الزمن الحديث فكرة الحلول التكنولوجية لسائر المشكلات الصناعية والبيئية والاجتماعية، ولكن التجربة أظهرت أن المشاكل البيئية ناتجة عن التفاعلات بين الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا، وأن الحلول المؤقتة قد تكون عبر الوسائل التكنولوجية، والحل الشامل لهذا الخلل يعتمد على إصلاح التفاعل وإيجاد طرائق تتصل بالعناصر الثلاثة لتحقيق الاتزان في تفاعلاتها، والسبيل إلى ذلك حزمة متكاملة تجمع بين الوسائل التقنية والوسائل الاقتصادية والوسائل الاجتماعية، بما في ذلك التشريعات والإجراءات الإدارية، كما أن استخدام بعض هذه الحزمة دون جملة العناصر يعد قصوراً لا يؤدي إلى الطريق الناجح .
ولهذا فقد ظهر ما يعرف بالاقتصاد البيئي وهو فرع من فروع العلوم الاقتصادية يعالج العلاقة بين المجتمعات البشرية والبيئة في إطار السياسات الاقتصادية البيئية، ويهدف إلى إدماج البيئة في الإطار الخاص بالعلوم الاقتصادية، وهذا ما تجاهله الاقتصاديون الكلاسيك، الذين كانوا يرون الاقتصاد على أنه العلم الذي يسعى لتعظيم الأرباح وتخفيض البطالة.
حيث يعنى الاقتصاد البيئي بشكل رئيسي بإخفاقات السوق وكيفية تأثير تلك الإخفاقات على توزيع الموارد الطبيعية (أو سوء توزيعها). ويركز الاقتصاد البيئي على تصنيف وتقييم تغيرات نوعية البيئة واستخدام السياسات البيئية لتوزيع تلك الموارد بشكل كفء. حيث توجد هناك مستويين للدراسة في اقتصاد البيئة، مستوى كلي(على مستوى الاقتصاد ككل)،و مستوى جزئي (على مستوى المؤسسة)؛
اقتصاد البيئة الجزئي: يمثل جزءا من اقتصاد المؤسسة الذي يهتم ويحلل علاقة المؤسسة بالبيئة الطبيعية والتطور النوعي للبيئة المحيطة وأثر السياسات البيئية على المؤسسة، ولاقتصاد البيئة على مستوى المؤسسة المهام التالية :
1- دراسة وتحليل إجراءات حماية البيئة للمؤسسة، أهدافها وعلى تعظيم الربح فيها؛
2- تقديم المشورات والنصائح للمؤسسة المناسبة مع متطلبات حماية البيئة؛
3- المساهمة في توجيه الإنتاج بما تقتضيه التوجيهات واللوائح البيئية؛
4- دراسة الاستثمارات البيئية التي تحد من الأخطار البيئية؛
5- إعطاء المعلومات حول تكاليف حمايـة البيئـة ونفقات الاستثمار وتأثير حماية البيئة على حسابات الأرباح والخسائر وتحليل الجدوى البيئية للمشاريع؛
6- إعطاء النصائح وتحليل المشاكل ودراسة آفاق المستقبل لبعض فروع الاقتصاد الوطني في ضوء التطورات البيئية كمؤسسات الخدمات ،النقل ،حماية البيئة ،التجارة والتأمين.
اقتصاد البيئة الكلي: يتناول مشاكل البيئة على مستوى الاقتصاد ككل، ومن أهدافه الوصول إلى مستويات أعلى من الرفاهية الاجتماعية المستديمة والتي تأخذ في الاعتبار، المحافظة على نوعية البيئة عند مستويات عليا وهو يعالج الموضوعات التالية:
1- التقويم المادي والنقدي للأضرار البيئية وكذلك تقويم التحسين البيئي الناجم عن السياسة البيئية في النشاطات الحكومية والخاصة؛
2- تحديد ودراسة الصلات القائمة بين البيئة والأهداف الاقتصادية الكلية وكذلك الصلات القائمة بين السياسات الاقتصادية والسياسات البيئية؛
كما أن لاقتصاد البيئة مجموعة من الوظائف يجب أن يقوم بها أهمها :
1- يعتبـر جزء من الاقتصاد الكلي، أي ليس فقط تخصيص التكاليف على مستوى المؤسسـة وإنما التكلفة على مستوى المجتمع وعلى الاقتصاد ككل.
2- تقديم المعلومات والاستشارات التي يمكن على أساسها اتخاذ القرارات وذلك من خلال:
• تقويم الأضرار البيئية وإجراءات حماية البيئة ونتائج تلك الإجراءات؛
• تقويم تطور أدوات السياسة البيئية سواء المحلية منها أو العالمية وتحديد إلى أي مدى تم حل المشاكل الموجودة؛
• تقويم تأثير حماية البيئة على الأهداف الاقتصادية الكلية وتحديدًا على العمالة والنمو الاقتصادي؛
• تقويم العلاقات بين السياسات البيئية والاقتصادية ذات الصلة فالسياسة البيئية تؤثر في السياسات الأخرى؛ كالسياسات الإقليمية وسياسة النقل والمواصلات وسياسة الطاقة والموارد.
كما أن التنمية المستدامة، هي تنمية في إطار الاعتماد على الذات، داخل الحدود الوطنية وفي حدود القيود التي تفرضها الموارد الطبيعية، أي لابد لكل دولة أن تتعايش مع بيئتها، وفقا للأسس المحلية، وبما يتيح الموائمة بين حاجاتها ورغباتها، والإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية. ولأن النظم الطبيعية ومشاكل البيئة لا تعترفان بالحدود الإقليمية، فإن التعاون الدولي أمرا ضروريا لدفع التنمية المستدامة نحو الأمام.
I-1-3 أبعاد التنمية المستدامة
يمثل مفهوم التنمية المستدامة أبعادا متعددة ومرتبطة فيما بينها، والتركيز عليها من شأنه أن يحرز تقدم في تحقيق التنمية المستدامة، ويمكن الإشارة إلى ثلاث أبعاد متفاعلة وهي كالآتي:
I-1-3-1 الأبعاد الاقتصادية
بالنسبة للدول الصناعية في الشمال، فإن التنمية المستدامة تعني إجراء خفض عميق ومتواصل في استهلاك هذه الدول من الطاقة والموارد الطبيعية وإحداث تحولات جذرية في الأنماط الحياتية السائدة، وأما بالنسبة للدول الفقيرة، فالتنمية المستدامة تعني توظيف الموارد من أجل رفع المستوى المعيشي للسكان الأكثر فقراً في الجنوب.ويمكن حصرها فيما يلي :
أ- حصة الاستهلاك الفردي من الموارد الطبيعية : تشير الإحصائيات أن استغلال الدول الصناعية للموارد الطبيعية يمثل أضعاف ما تستخدمه الدول النامية على مستوى نصيب الفرد، فالولايات المتحدة الأمريكية تستهلك من الطاقة الناجمة عن النفط والغاز والفحم أكثر من الهند ب 33 مرة، وكما هو الحال في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) أعلى بعشر مرات في المتوسط للدول النامية.
فالتنمية المستدامة في الدول الغنية تتلخص في إجراء تخفيضات متواصلة من مستويات الاستهلاك المبددة للطاقة والموارد الطبيعية وذلك عبر تحسين مستوى الكفاءة، شريطة التأكد من عدم تصدير الضغوط البيئية إلى الدول النامية، كما تعني التنمية المستدامة تغيير أنماط الاستهلاك التي تهدد التنوع البيولوجي والمنتجات الحيوانية بالانقراض.
ب- مسؤولية البلدان المتقدمة عن التلوث ومعالجته وتبديد الموارد الطبيعية: أدى الاستهلاك المتراكم من الموارد الطبيعية مثل المحروقات للدول الصناعية في الماضي إلى إسهامها في مشكلات التلوث العالمي، لذا تقع عليها المسؤولية الكاملة في معالجته ما دامت تكسب الموارد المالية والتقنية والبشرية الكفيلة باستخدام تكنولوجيا أنظف واستخدام الموارد بكثافة أقل، وذلك عن طريق إتباع سياسات وإجراءات لتخفيض مستويات الاستهلاك المبددة للطاقة والموارد الطبيعية.
ج- تقليص تبعية البلدان النامية : ثمة جانب يربط بين الدول الغنية والفقيرة، له تأثير على تحقيق التنمية المستدامة ذلك أنه بالقدر الذي ينخفض فيه استهلاك الموارد الطبيعية في الدول الصناعية يتباطأ نمو صادرات هذه المنتجات في الدول النامية وتنخفض أسعارها، مما يحرم الدول النامية من إيرادات تحتاج إليها لتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، لأجل ذلك لا بد على الدول النامية الاعتماد على نمط تنموي يقوم على الاعتماد على الذات لتنمية القدرات الذاتية وتأمين الاكتفاء الذاتي.
فالتنمية المستدامة في الدول الفقيرة تعني استغلال الموارد الطبيعية لأغراض التحسين المستمر لمستويات المعيشة وتخفيف عبء الفقر، لأن هناك روابط وثيقة بين الفقر وتدهور البيئة والنمو السريع للسكان والتخلف الناجم عن التاريخ الاستعماري والتبعية المطلقة للقوى الرأسمالية.
د- المساواة في توزيع الموارد والمداخيل :تعتبر الوسيلة الناجعة للتخفيف من عبء الفقر وتحسين مستويات المعيشة، وهي مسؤولية كل من الدول الغنية والفقيرة، وتعتبر هذه الوسيلة غاية في حد ذاتها وتتمثل في جعل فرص الحصول على الموارد والمنتجات والخدمات، وكذا مستويات الدخل فيما بين جميع الأفراد داخل المجتمع أقرب إلى المساواة، ما يسمح بفرص أحسن للتعليم والرعاية الصحية الجيدة.
هـ- تقليص الإنفاق العسكري :كما تعني التنمية المستدامة أيضا تحويل الأموال من الإنفاق للأغراض العسكرية وأمن الدولة إلى الإنفاق على احتياجات التنمية، ومن شأن إعادة تخصيص ولو جزء بسيط من المواد المكرسة الآن للأغراض العسكرية الإسراع بالتنمية بشكل ملحوظ.
I-1-3-2 الأبعاد الاجتماعية
فإن التنمية المستدامة تسعى إلى تحقيق الاستقرار في النمو السكاني، ووقف تدفق الأفراد إلى المدن، وذلك من خلال تطوير مستوى الخدمات الصحية والتعليمية في الأرياف، تحقيق أكبر قدر من المشاركة الشعبية في التخطيط للتنمية، وتحسين قدرة الحكومات على توفير الخدمات المختلفة للسكان وكذلك من خلال النقاط التالية:
أ- تثبيت النمو الديموغرافي :حيث أن هذا الأمر أصبح يكتسي أهمية بالغة، ليس لأنه يستحيل نمو السكان لفترة طويلة بنفس المعدلات الحالية فقط، بل كذلك النمو السريع يحدث ضغوطا حادة على الموارد الطبيعية وعلى قدرة الحكومات على توفير الخدمات.
ب- مكانة الحجم النهائي للسكان وأهمية توزيعه: توحي الإسقاطات الحالية في ضوء الاتجاهات الحاضرة للخصوبة بأن عدد سكان العالم سيستقر عند حوالي 11.6 مليار نسمة، وهو أكثر من ضعف عدد السكان الحاليين، وبالتالي وجب النظر في الحجم النهائي الذي يصل إليه السكان ذلك أن حدود قدرة الأرض على إعالة الحياة البشرية غير معروفة بدقة،كما أنها تهتم بضرورة النهوض بالتنمية الريفية لتقليل الهجرة إلى المدن، إذ تقوم المدن بتركيز النفايات والمواد الملوثة فتسبب في كثير من الأحيان أوضاع لها خطورة على المجتمع وتدمر النظم الطبيعية المحيطة بها.
ج- الاستخدام الكامل للموارد البشرية :تعني التنمية المستدامة إعادة تخصيص الموارد بما يضمن الوفاء بالاحتياجات البشرية الأساسية، بمعنى تحسين الرفاهية الاجتماعية وحماية التنوع الثقافي، والاستثمار في رأس المال البشري بتدريب المربين والعاملين في الرعاية الصحية وغيرهم من المتخصصين الذين تدعو إليهم الحاجة لاستمرار التنمية.
د- الأسلوب الديمقراطي والمشاركة في الحكم :على المستوى السياسي يشكل اعتماد النمط الديمقراطي وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار والحكم بما يعزز ثقة الأفراد بأهمية دورهم، القاعدة الأساسية في تحقيق التنمية المستدامة في المستقبل.
هـ- الصحة، التعليم وأهمية دور المرأة: أن القوة العاملة التي تحوي أشخاص يتمتعون بصحة جيدة وتعليم حسن لأمر ضروري للوصول إلى تنمية اقتصادية قوية بوتيرة سريعة. ومن شأن الاستثمار في صحة المرأة وتعليمها أن يعود على القابلية للاستدامة بمزايا متعددة. فهي من المشاركين في التنمية الاقتصادية عن طريق عملها خارج المنزل أو كونها المسئولة الأولى والمدبرة لشؤون منزلها وتربية أولادها.
I-1-3-3 الأبعاد البيئية
فإن التنمية المستدامة هي الاستخدام الأمثل للأراضي الزراعية، الموارد الطبيعية والموارد المائية في العالم على أساس مستديم والتنبؤ لما قد يحدث للنظم البيئية من جراء التنمية بما يؤدي إلى مضاعفة المساحة الخضراء على سطح الكرة الأرضية، ويمكن إجمال الأبعاد البيئية في ما يلي:
أ- إتلاف التربة، استعمال المبيدات، تدمير الغطاء النباتي والمصائد :من الملاحظ أن تعرية التربة وفقدان إنتاجيتها يؤديان إلى التقليص من غلتها، كما أن الإفراط في استخدام الأسمدة ومبيدات الحشرات يؤدي إلى تلويث المياه السطحية والجوفية، أما الضغوط البشرية والحيوانية فهي في علاقة سلبية مع الغطاء النباتي والغابات، كما أن هناك مصائد كثيرة من الأسماك في المياه العذبة أو البحرية يرى استغلالها فعلا بمستويات غير مستدامة.
ب- صيانة المياه : تعني التنمية المستدامة وضع حد للاستخدامات المبددة وتحسين كفاءة شبكات المياه، كما تعني تحسين نوعية المياه وقصر المسحوبات من المياه السطحية على معدل لا يحدث اضطرابا في النظم الايكولوجية التي تعتمد على هذه المياه، وقصر المسحوبات من المياه الجوفية بما يضمن تجددها.
ج- تقليص ملاجئ الأنواع البيولوجية:معناه أن يتم صيانة ثراء الأرض في التنوع البيولوجي للأجيال المقبلة وذلك بإبطاء عمليات الانقراض وتدمير الملاجئ والنظم الايكولوجية بدرجة كبيرة، وإن أمكن وقفها.
د- حماية المناخ من الاحتباس الحراري :ويعني عدم المخاطرة بإجراء تغييرات كبيرة في البيئة العالمية من شأنها أن تحدث تغيير في الفرص المتاحة للأجيال المقبلة، وذلك بالحيلولة دون زعزعة استقرار المناخ، أو النظم الجغرافية الفيزيائية والبيولوجية أو تدمير طبقة الأوزون الحامية للأرض من جراء النشاط البشري.
مما سبق نستنتج أن التنمية المستدامة لا تركز فقط على الجانب البيئي بل تشمل أيضا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية،ويمكن وصف هذه الأبعاد بأنها مترابطة ومتكاملة في إطار تفاعلي يتسم بالضبط والتنظيم والترشيد للموارد، ويمكن التعامل مع هذه الأبعاد على أنها منظومات فرعية لمنظومة التنمية المستدامة كما هو مبين في الشكل التالي:
الشكل رقم(I-3): يوضح تداخل أبعاد التنمية المستدامة
المصدر:عثمان محمد غنيم. التنمية المستدامة، فلسفتها وأساليب تخطيطها وأدوات قياسها، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص42
يمكن أن نستنتج بأن هناك قواسم مشتركة لهذه الأبعاد لكي تكون التنمية مستدامة نذكرها كما يلي:
1- ألاَّ تتجاهل الضوابط والمحددات البيئية.
2- ألاَّ تؤدي إلى دمار واستنزاف الموارد الطبيعية.
3- أن تؤدي إلى تطوير الموارد البشرية ( المسكن، الصحة، مستوى البيئة، أوضاع المرأة، الديمقراطية وحقوق الإنسان).
4- أن تحدث تحولات في القاعدة الصناعية السائدة.
إن التنمية المستدامة هي المبدأ القائل بأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب أن لا تدمر البيئة، وأن تتم عملية التنمية ضمن حدود وإمكانات العناصر البيئية، وضمن الأطر التي يضعها علم البيئة بمعناه الواسع، وذلك من خلال دراسة وفهم العلاقات المتبادلة بين الإنسان ونشاطاته المختلفة، وبين البيئة التي يعيش فيها وما يحكمها من قوانين فيزيائية وكيميائية، إن هذه الأطر ضرورية ولازمة لضمان توازن هذه العلاقات من خلال تفاعل إنساني عقلاني بين عناصرها لتحقيق نوعية حياة جيدة كما هو موضح في الشكل التالي:
الشكل رقم (I-4): يوضح علاقات التنمية المستديمة وأطرها اللازمة لتحقيق نوعية حياة جيدة
المصدر:عثمان محمد غنيم. التنمية المستدامة، فلسفتها وأساليب تخطيطها وأدوات قياسها، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص97
-2 الآثار الخارجية وتعظيم الرفاهية الاجتماعية
يؤدي سوق المنافسة الكاملة إلى الإفراط في إنتاج بعض السلع، وبالتالي إلى النقص في إنتاج بعض السلع الأخرى، طالما أن كافة المجتمعات تعاني من الندرة النسبية للموارد. ويرجع الإفراط من ناحية وذلك النقص من ناحية أخرى إلى أن الأسعار السوقية النسبية للسلع والخدمات لا تعبر تعبيرا دقيقا عن المزايا والتكاليف من وجهة نظر المجتمع ككل، وذلك نتيجة لما يعرف بالآثار الخارجية للنشاط الاقتصادي.
-2-1 نظرية الآثار الخارجية
يكون هناك أثر خارجي، عندما تتأثر رفاهية وكيل أو فرد (فائدة مستهلك أو ربح مؤسسة) أو حرية اختياره لسلوكه بأعمال فرد آخر لا تربطه أي علاقة سوقية أو معاملات بينهما. بحيث يترتب على العمليات الإنتاجية التي تقوم بها المؤسسات منتجات لا يتم تسويقها كسلعة نهائية، لأن سعرها لا يعكس الآثار الخارجية لها، وتتأثر بهذه المنتجات بعض المؤسسات الأخرى والمجتمع، الذين سيدفعون ثمن هذه الآثار الخارجية بأشكال مختلفة إلى درجة استعدادهم لدفع مبالغ نقدية معينة من أجل التقليل من حدة هذه الآثار وبتتبع مصدر الآثار الخارجية ، فإننا نميز بين آثار خارجية للاستهلاك الناجم عن استهلاك بعض السلع (التدخين، الضجيج، النفايات الملوثة )، والآثار الخارجية للإنتاج ، الناجم عن النشاط الإنتاجي للشركات ( انبعاث الغازات الملوثة مثل الكبريت من جانب بعض الصناعات أو النيرات الزراعة التي تلوث التربة ومجاري المياه).
انطلاقا مما سبق نقول أن الآثار الخارجية هي أن تؤول تكاليف أو منافع النشاط قيد الدراسة إلى أفراد ليس لهم علاقة مباشرة بذلك النشاط، وتكون هناك آثار خارجية إذا توفر الشرطين التاليين:
1- نشاط المؤسسة يجب أن يحدث انخفاض أو تحسين في مستوى الرفاهية بالنسبة لفرد من أفراد المجتمع أو مستوى إنتاج مؤسسة أخرى.
2- التخفيض أو التحسين في الإنتاج أو الرفاهية يجب أن يكون غير معوض : مسبب الآثار الخارجية والذي يؤثر على رفاه أو إنتاج الآخرين لا يقوم بدفع (أو استلام حالة المؤثرات الخارجية الموجبة) أي تعويض لنشاطه بقيمة تعادل التكلفة الناتجة عن نشاط الآخرين.
وعلى ذلك يمكننا القول أن أية نفقات إضافية يتحملها الأفراد الآخرون والمنشآت الأخرى نتيجة للنشاط الإنتاجي لوحدة اقتصادية تعتبر نفقات خارجية، وعلى ذلك نلاحظ:
External Cost + Private Cost = Social Cost
التكلفة الاجتماعية = مجموع التكاليف الخاصة + التكاليف الخارجية التي تتحملها
( التكلفة من وجهة نظر المجتمع) بالمنشأة القائمة على الإنتاج المنشآت الأخرى والأفراد الآخرون
ونقصد بالتكلفة الخارجية تلك التكاليف التي تفرض على بعض المنشآت والأفراد في المجتمع ولا تعكسها الأسعار النسبية السائدة في السوق.
فعندما تتدهور وتنقص منافع أفراد أو مؤسسات نتيجة للآثار الخارجية لنشاط إنتاجي لمؤسسة ما،وتحملها لتكاليف ليست مسئولة عنها، تسمى الآثار الخارجية السلبية: حالة العوامل الخارجية التي تتوافق مع تدهور البيئة ، مثل غازات الانبعاثات الدافئة، والتلوث ، والنفايات ، وغير ذلك من التحولات المنتجة، التغيرات الظاهرة في حجم وهيكل الأسواق، والانقسامات الجديدة على الأقاليم التي يحكمها منطق السيطرة على تنقل وتعويض الآثار الخارجية السلبية.
وقد يكون الأثر الخارجي إيجابي، عندما يستفيد أفراد أو مؤسسات بمنافع وزيادة في رفاهيتهم نتيجة للنشاط الإنتاجي لمؤسسة ما،دون أن يدفعوا نظير الاستفادة بهذه المنافع: نتكلم هنا عن حالة الآثار الخارجية الناجمة عن أنشطة البحث والتطوير التي تقوم بها بعض الشركات والتي تعود فوائدها على الآخرين ، أو توفير الراحة النفسية والمتعة للجيران من قبل أصحاب الحدائق الجميلة، كالاستفادة من الطرق المؤدية للمنشأة، أو تجفيف المستنقعات في منطقة معينة تمهيدا لإقامة المنشأة فتقل أسراب الحشرات ويقضى على الأمراض التي كان يعاني منها سكان المنطقة، حيث أن التخطيط أو إعادة التخطيط للحصول على الآثار الخارجية الإيجابية للشركات، شأنها في ذلك شأن جميع المنظمات، حيث أصبحت القضية الأساسية للبلدان الصناعية التي تعاني من نضوب في دورتها الإنتاجية.
ولتوضيح الفكرة أكثر نقوم بالتمثيل البياني للأثر الخارجي الناجم عن انحراف التكلفة الاجتماعية والتكلفة الخاصة بالمؤسسة على النحو التالي:
الشكل رقم (I-5): إدخال التكاليف الاجتماعية في حالة التوازن (الأثر سلبي)
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص98
كما هو موضح في الشكل فإن منحنى التكلفة الحدية الاجتماعية يقع أعلى من منحنى التكلفة الحدية الخاصة عند أي مستوى من مستويات الإنتاج، والمسافة الرأسية بين هذين المنحنيين تقيس التكلفة الخارجية وهي ثابتة بالنسبة للوحدات المتتالية من الإنتاج.
يتحدد التوازن عند (P,Q) ، بافتراض عدم تعويض التكاليف التي يتحملها عون آخر نتيجة الأثر الخارجي السالب، بمعنى آخر لا يعكس السعر P مجموع التكاليف الناجمة عن الإنتاج والتي من المفترض أن تتضمن التكاليف الاجتماعية غير المأخوذة بعين الاعتبار.
إن الاقتصاديين يأخذون هذه الآثار الخارجية (السلبية منها والإيجابية) في الحسبان عند تحليل المشكلات البيئية. وسنحاول تعميق فكرة الآثار الخارجية مستخدمين آثار التوازن الجزئي البسيط، وللتوضيح أكثر نفترض أن هناك نهرا صغيرا يجري في منطقة معينة، وأن مصنعا لإنتاج السلعة X قد أقيم على الأرض الواقعة في المنطقة العليا للنهر. أما المنطقة السفلى له فصالحة للزراعة المحصول Y، وهي ملك لأحد المزارعين الذي يستخدم مياه النهر لري محصوله الذي يقوم بزراعته.
بافتراض أن متوسط إنتاجية الهكتار كانت مرتفعة، بحيث أن المزارع لا يفكر في استخدام الأرض لأي استعمال بديل، أو الالتحاق بوظيفة أخرى. بدأ المصنع بعملياته الإنتاجية في ظل المنافسة الكاملة وأخذ يلقي مخلفاته في مياه النهر، مما ترتب عليه تلوث هذه المياه. ومع مرور الوقت ارتفع معدل التلوث، فأثر ذلك على إنتاجية الهكتار في المنطقة السفلية للنهر وتدهورت، ما جعل المزارع يفكر في التوقف نهائيا عن الزراعة، هنا نكون بصدد الآثار الخارجية المترتبة على إنتاج السلعة X للمصنع.
نلاحظ من المثال السابق أن المجتمع يحقق مكاسب من وراء المصنع ولكنه في نفس الوقت يتحمل خسائر متمثلة في انخفاض إنتاجية الأرض الزراعية، فصافي مكسب المجتمع من إنتاج المصنع في حالة اقتصاد يتمتع بالتوظيف الكامل يساوي الزيادة في قيمة منتجات المصنع بما يفوق قيمة عناصر الإنتاج المستخدمة لهذا الإنتاج (بافتراض أنه تم استخدام عناصر الإنتاج أفضل استخدام بين الاحتمالات البديلة المتاحة)، أما إذا اضطر المزارع إلى ترك مزرعته تحت تأثير التلوث، وفي نفس الوقت لم يجد عملا آخر يقوم به، وأصبحت الأرض لا قيمة لها في أي استخدام آخر، فإن الخسارة في هذه الحالة تعادل القيمة الكلية للمحصول، وذلك بافتراض ضمني لعدم وجود سوق لبيع وشراء حقوق استخدام النهر، فالمزارع لا يستطيع معاقبة صاحب المصنع نتيجة لقيامه بإلقاء نفايات في النهر، كما أن صاحب المصنع لن يأخذ في الحسبان عند حسابه لتكاليفه الآثار الخارجية التي يفرضها نشاطه الإنتاجي على المزارع. وقد افترضنا كذلك عدم التدخل الحكومي لضمان حسن استخدام مياه النهر وعدم وجود قوانين لضمان حقوق استخدام هذه المياه.
وعليه فإن إنتاج المصنع للسلعة X قد يشكل نوعا من الآثار الخارجية السلبية للمجتمع، يمكن قياس ذلك عن طريق تقدير الانخفاض والخسارة في صافي دخل المزارع.
أما في حالة ملكية المزارع للأرض بالإضافة إلى ملكيته للمصنع فأن النتيجة تختلف، ففي ظل هذا الوضع يمكن القيام بحسابات اقتصادية رشيدة للمنشاة المالكة للمزرعة وللمصنع، وسوف تؤكد الحسابات ما إذا كان التحول من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي يعتبر أمرا مربحا أم لا. ومثل هذه الحسابات تظهر الحل الأمثل الذي يقدمه نظام السوق. فمياه النهر كغيرها من الموارد الإنتاجية الأخرى، يجب أن تخصص في أفضل وأكفأ استخدام اجتماعي ممكن.
وكما نعرف من دراسة الاقتصاد أن المساواة بين السعر والتكلفة الحدية تعتبر شرطا ضروريا لتعظيم الربح في ظل وجود المنافسة الكاملة. فما مدى صحة هذا الشرط في ظل وجود الآثار الخارجية السلبية؟
إن التكلفة الحدية هي مقدار التغير في التكلفة الكلية نتيجة وحدة واحدة إضافية من السلعة X. والافتراض الضمني هنا هو أن كافة التكاليف تتحملها المنشأة التي تقوم بالعمليات الإنتاجية، ولذلك نطلق على منحنى التكلفة الحدية للمنشاة منحنى التكلفة الحدية الخاصة (PMC) ففي ظل المنافسة الكاملة فإن المنشأة التي تستهدف تعظيم الربح سوف تحقق حجم الإنتاج الأمثل عند الحجم 0 q3 حيث MPC=P كما هو مبين في الشكل أدناه.
الشكل رقم (I-6): توازن المنشأة في حالة الآثار السلبية (سوق المنافسة الكاملة)
المصدر: المعهد العربي للتخطيط، تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، الكويت.2005، ص 4.
لاحظ أن منحنى التكلفة الحدية الخاصة (PMC) يتضمن كافة التكاليف التي تدفعها المنشأة كعوائد لعناصر الإنتاج والمستلزمات الإنتاجية، ولكن هناك تكلفة أخرى لم تأخذها المنشأة في الحسبان وهي صافي خسارة الدخل للمزارع نتيجة لتخليه عن إنتاجه الزراعي للمحصول Y أو تخفيضه للكمية المنتجة، فهذه الخسارة تعتبر تكلفة إضافية من وجهة نظر المجتمع، وهي لا تدخل عند رسم منحنى التكلفة الحدية الخاصة PMC للسلعة X. وعليه فإننا نستطيع أن نتنبأ بوجود منحنى تكلفة حدية آخر يأخذ كافة تكاليف إنتاج المصنع في الاعتبار الخاص بالمنشأة والخارجي منها(أي من وجهة نظر المجتمع)، وهذا ما نسميه بمنحنى التكلفة الحدية الاجتماعية (SMC) كما هو واضح في الشكل أعلاه فإن المنحنى يقع بالكامل أعلى منحنى التكلفة الحدية الخاصة PMC، عند أي مستوى من الإنتاج. وأن المسافة الرأسية بين منحنى التكلفة الحدية الخاصة PMC ومنحنى التكلفة الحدية الاجتماعية (SMC) إنما تقيس التكلفة الخارجية(مقدار الخسارة في صافي دخل المزارع، نتيجة لكل وحدة إضافية منتجة من X). فعلى سبيل المثال، فإن التكلفة الحدية الخاصة لإنتاج الوحدة q1 هي 0p1 بينما التكلفة الحدية الاجتماعية لهذه الوحدة هي 0p2 والفارق بين 0p2 و 0p1 يعكس التكلفة الحدية الخارجية لإنتاج الوحدة من X. وبافتراض أن المسافة الرأسية بين التكلفة الحدية الاجتماعية و التكلفة الحدية الخاصة ثابتة ما يعطينا تكلفة حدية خارجية لإنتاج X ثابتة بالنسبة للوحدات المتتالية من الإنتاج ولا تعتمد على كمية X المنتجة. وهذا التبسيط الأخير لن يؤثر على النتائج الأساسية التي نريد توضيحها.
وبما أن التحليل يقوم على افتراض وضع المنافسة الكاملة، فإن منتج المصنع X يعتبر آخذا للسعر أي لا يستطيع التأثير فيه.ولذلك رسم منحنى الطلب الذي يواجه هذا المنتج في الشكل الموازي للمحور الأفقي.
وبالرجوع إلى الشكل السابق يكون حجم الإنتاج الأمثل من وجهة نظر المنشأة هو 0q3 حيث يكون PMC P3 وهو شرط تعظيم الربح في ظل المنافسة الكاملة. أما من وجهة نظر المجتمع ككل، فإن حجم الإنتاج الأمثل يكون 0q2 حيث SMC P2 (= SMC تكلفة حدية خاصة زائدا التكلفة الخارجية).
وعلى ذلك يتضح لنا أنه في ظل سوق المنافسة الكاملة أدى إهمال الآثار الخارجية للإنتاج إلى إفراط في إنتاج X بالمقدار q2q3. فالموارد المستخدمة في إنتاج q2q3 من السلعة X كان من الأفضل توجيهها لإنتاج سلع أخرى، وعليه فإن إهمال الآثار الخارجية قد أدى إلى الإسراف في إنتاج بعض السلع وإلى نقص شديد في إنتاج بعض السلع الأخرى، حيث موارد المجتمع نادرة نسبيا، بل قد يصل الوضع إلى حد التوقف النهائي عن إنتاج بعض السلع الأخرى. وعلى ذلك أمكننا التوصل على النتيجة التالية:
إنه في ظل سوق المنافسة الكاملة يؤدي وجود الآثار الخارجية السلبية إلى عدم التخصيص الأمثل للموارد، فالكميات المنتجة من بعض السلع يكون مبالغا فيها، بينما تتسم الكميات المنتجة من بعض السلع الأخرى بالنقص الشديد نظرا لتوجيه قدر كبير من الموارد الإنتاجية في المجتمع لإنتاج السلع الأولى(على فرض التوظيف الكامل للموارد).
افترضنا في المثال السابق وجود منشأة واحدة تقوم بإنتاج سلعة X ما حيث يترتب على نشاطها الآثار الخارجية السالبة، كما أن التغيرات في ناتج هذه المنشأة وحدها لا يؤثر على السعر السوقي طالما تنتج في ظل المنافسة الكاملة، ولكي تبدوا الصورة أكثر وضوحا، سنفترض أن كافة المنشآت المنتجة لتلك السلعة X تسبب نفس الدرجة من التكلفة الخارجية المترتبة على نشاطها الإنتاجي. فهذا الافتراض يسمح لنا بالانتقال بالتحليل من مستوى المنشأة إلى مستوى الصناعة ككل. فإذا قامت كافة المنشآت المنتجة لتلك السلعة بإلقاء النفايات في مياه النهر فإن المجتمع سيتأثر حيث تنهار الثروة السمكية، ويفرض على المدن الواقعة على جانب النهر أن تخصص مبالغ كبيرة لتنقية المياه حتى تكون صالحة للشرب. ولتبسيط الصورة سوف نفترض أن منشآت تلك السلعة X عددها كبير وأنها تتسم بالتجانس من حيث ما يترتب على نشاطها من تكلفة خارجية وتكلفة خاصة، علما أن هذا الافتراض لن يؤثر على النتائج التي نريد توضيحها.
كما عرفنا من دراستنا للنظرية الاقتصادية الجزئية، فإن منحنى عرض المنشأة في المنافسة التامة هو الجزء الصاعد من منحنى التكلفة الحدية، بعد أن يقطع منحنى متوسط التكلفة المتغيرة (AVC) عند حده الأدنى. وبتجميع منحنيات العرض الخاصة لكافة المنشآت المنتجة لتلك السلعة تجميعا أفقيا نحصل على منحنى العرض الخاص للصناعة PS في الشكل القادم نلاحظ أن كل منشأة سوف تنتج الكمية المتوازنة 0q3 عند السعر 0p3 وبالتالي فإنه عند السعر 0p3 فإن عدد n من المنشآت المتماثلة سوف تبيع الكمية 0q2 n حيث:
0q3 = الكمية التوازنية للمنشأة
n = هو عدد المنشآت
وعلينا ملاحظة أن أية نقطة على منحنى عرض الصناعة يمكن الحصول عليها عن طريق تجميع الكميات التي تكون كل منشأة راغبة في عرضها عند السعر المناظر. فهذا المنحنى هو منحنى العرض الخاص لصناعة تلك السلعة PS.
وبالمثل فإنه عن طريق تجميع منحنيات التكلفة الحدية الاجتماعية لكافة المنشآت المنتجة للسلعة X تجميعا أفقيا نكون بصدد منحنى العرض الاجتماعي SS لصناعة تلك السلعة.
الشكل رقم (I-7): توازن الصناعة في حالة وجود الآثار الخارجية
المصدر: تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، العدد 21،ص 6
نلاحظ من الشكل أعلاه أن منحنى العرض الاجتماعي يقع بالكامل أعلى منحنى العرض الخاص للصناعة، مما يعكس الفارق بين التكلفة الحدية الخاصة والتكلفة الحدية الاجتماعية لجميع منشآت السلعة X. فالمسافة الرأسية بين المنحنيين تمثل إجمالي التكلفة الخارجية المفروضة على المجتمع عند أي مستوى من مستويات إنتاج السلعة.
نحن ندرك أنه على الرغم من أن منحنى العرض الخاص بالصناعة يمكن الحصول عليه بملاحظة مدى استجابة العرض للأسعار المختلفة، إلا أن منحى العرض الاجتماعي يعتمد على عوامل خارجية ومعلومات لا يمكن الحصول عليها من خلال نظام السوق.
طبقا للفرضيات السابقة فإن المنشأة سوف تعتمد في اتخاذ قراراتها المختلفة على التكلفة الخاصة، ولن تبالي بالتكلفة الخارجية لنشاطها، مما ينعكس على منحنى العرض الاجتماعي للصناعة.
-2-1-1 الآثار الخارجية السلبية ومدى تأثيرها على الأسعار النسبية:
توصلنا في التحليل السابق إلى منحنى العرض الخاص PS ومنحنى العرض الاجتماعي SS، فإذا أخذنا وضع منحنى الطلب على صناعة السلعة X في الحسبان فإننا نستطيع التوصل إلى بعض النتائج الهامة من خلال الشكل(I-8) :
- إن سعر التوازن للصناعة 0p3 هو السعر السوقي الذي يواجه كافة المنشآت كما هو واضح في الشكل (I-7)، وأن كمية الإنتاج التوازنية لصناعة السلعة X الموضحة في الشكل (I-8) 0q2 تكون مساوية تماما إلى مجموع الناتج التوازني لكافة المنشآت 0p3 في شكل (I-7)، أي أن 0p3 في الشكل رقم (I-8) تساوي 0p3 مضروبة في n عدد المنشآت في الشكل (I-7) حيث يتحدد السعر التوازني بتقاطع منحنى الطلب مع منحنى العرض.
- إن المنحنى الذي يعكس التكلفة الحدية الاجتماعية المترتبة على إنتاج السلعة X هو منحنى العرض الاجتماعي للصناعة وليس منحنى العرض الخاص. لاحظ أن منحنى العرض الاجتماعي يبين قيمة الإنتاج المفقود من المحصول الزراعي Y(في حالة المثال السابق) وجميع التكاليف الخارجية المفروضة على المنشآت والأفراد بواسطة منشآت السلعة X.
- إذا كان منحنى عرض الصناعة هو منحنى العرض الاجتماعي فإن كمية الإنتاج التوازنية سوف تتحدد بالكمية 0q1 وحدة في الشكل (I-8) وليس 0q2 وسوف يكون سعر السوق 0q1 بدلا من 0p3.
- بالمقارنة بين النتيجة الأولى والثالثة فإننا نلاحظ أن نظام السوق الذي أهمل الآثار الخارجية قد أدى إلى زيادة كمية الإنتاج التوازنية بالمقدار q1q3 وانخفاض سعر التوازن بالمقدار q1q3، وبالتالي يساء استخدام الموارد، حيث أدى نظام السوق إلى الإفراط في إنتاج السلعة X.
-2-1-2 الآثار الخارجية الإيجابية ومدى تأثيرها على الأسعار النسبية
عندما يتمتع الأفراد أو المنشآت بمنافع نتيجة للنشاط الإنتاجي لمنشأة معينة فإننا نكون بصدد الآثار الخارجية الإيجابية، فكما أن الأفراد الذين يتضررون من نشاط منشأة معينة لن يتم تعويضهم عن هذه الخسائر والأضرار، فإن المستفيدين بالمثل لن يدفعوا نظير استفادتهم بالمنافع الخارجية، وحتى نربط بين الآثار الخارجية الإيجابية ومشكلات التلوث نستطيع تناول المثال التالي.
لنفترض أن منشأة قد اشترت قطعة أرض لإقامة مصنع جديد، ولكن وجد صاحب المنشأة أن الأرض بها مستنقعات وأنها بحاجة إلى عمليات صرف للمياه الزائدة، ونتيجة لتجفيف المستنقعات تخلصت المنطقة السكنية التي بها أرض المصنع من أسراب الحشرات التي كانت تسبب الكثير من الأمراض، وبالتالي وفرت هذه المنشأة على الدولة الأموال المنفقة على عمليات الرش وإبادة الحشرات، وأصبح من الممكن استخدام هذه الأموال في أوجه النفع الأخرى كبناء المدارس والمستشفيات .....الخ.
بالطبع سوف نلاحظ أنه في حالة الآثار الخارجية الإيجابية فإن منحنى التكلفة الحدية الاجتماعية سيكون بالكامل أسفل منحنى التكلفة الحدية الخاصة، على عكس الوضع في حالة الآثار الخارجية السلبية، حيث أن:
PEx - PMC = SMC
التكلفة الحدية الاجتماعية = التكلفة الحدية الخاصة - الآثار الخارجية الإيجابية
وهذا ما يوضحه الشكل التالي:
الشكل رقم (I-8): توازن المنشأة في حالة الآثار الخارجية الإيجابية
المصدر: تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، العدد 21،ص 9
ففي حالة إهمال الآثار الخارجية الإيجابية يتحقق حجم الإنتاج التوازني من وجهة نظر المنشأة عند الكمية 0q1 حيث السعر PMC p3 ، وهذه الكمية أقل بكثير من الكمية التوازنية إذا ما أخذنا وجهة النظر الاجتماعية في الحسبان، فبالنسبة للمجتمع ككل يتحقق حجم الإنتاج التوازني عندما يتساوى السعر مع التكلفة الحدية الاجتماعية فيصبح حجم الإنتاج الأمثل 0q2، وبذلك أدى نظام السوق إلى النقص الشديد في إنتاج السلعة التي ترتب على نشاطها آثار خارجية إيجابية فتكون بصدد سوء تخصيص موارد.
كذلك فإننا نتوقع من التحليل السابق أن يكون منحنى العرض الخاص للصناعة أعلى من منحنى العرض الاجتماعي للصناعة عند كل مستوى من مستويات الإنتاج، ويصبح توازن الصناعة في حالة الآثار الخارجية الإيجابية كما هو موضح في الشكل أدناه.
الشكل رقم (I-9): يوضح توازن الصناعة في حالة الآثار الخارجية الإيجابية
المصدر: تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، العدد 21،ص 9
يتضح من الشكل السابق أن الصناعة عند التوازن سوف تنتج كمية أقل من الكمية المثلى من وجهة نظر المجتمع، وبالتالي وف يكون سعر التوازن مرتفعا( فالكمية 0q1 أقل بكثير من الكمية 0q2 التي تعتبر الكمية التوازنية الاجتماعية والتي تتحدد بنقطة التقاطع بين منحنى الطلب على الصناعة ومنحنى العرض الاجتماعي للصناعة).
مما سبق نستطيع استنتاج نتيجة أساسية مفادها: أن نظام السوق يفشل في تحقيق التخصيص الأمثل للموارد نظرا لوجود الآثار الخارجية الإيجابية منها والسلبية إذا لم تؤخذ هذه الآثار في الحسبان.
-2-1-3 الشروط الخارجية والشروط الضرورية لنظام الرفاهية الاجتماعية
رأينا أن التخصص الأمثل للموارد في سوق المنافسة الكاملة (دون أخذ الآثار الخارجية في الحسبان) يحقق الوضع الأمثل لباريتو، فيتحدد التوازن في هذا السوق عندما يتساوى معدل الإحلال الحدي MRS في الاستهلاك بين سلعتين مع معدل التحول الحدي (MRT = Mc x Mc y ) في الإنتاج لنفس هاتين السلعتين، وعليه فإن شروط الوصول إلى أقصى رفاهية اجتماعية للسلعتين x وy تتحقق عندما:
MRS x, y = MRT x, y
وبما أن:
MRT x y = - ( Mc x Mc y)
فإذا ما أخذنا وجهة النظر الاجتماعية في الحسبان، فإن التكلفة الحدية لكل من السلعتين x وy تشتمل على التكلفة الخاصة زائدا التكلفة الخارجية.
فالتكلفة الاجتماعية = التكلفة الخاصة + التكلفة الخارجية
إن تعظيم الربح من وجهة النظر الخاصة للمنشأة تتحقق في ظل ظروف المنافسة الكاملة، حيث أن:
(التكلفة الحدية الخاصة) P = PMC
ولكننا نعرف أن: MRT x y = PMc x PMc y
ولنفرض أن إنتاج السلعة x يفرض تكلفة خارجية على المجتمع بينما إنتاج السلعة y لا يحمل المجتمع أية تكاليف خارجية، فباستخدام المنطق التحليلي للآثار الخارجية نجد أن:
(1) SMc x > PMc y
(2) SMc y = PMc x
من (1) و (2) نجد: (SMc x SMc y) > (PMc x PMc y)
أي أن: معدل التحول الاجتماعي معدل التحول الخاص
وبالتالي فإن معدل التحول الاجتماعي لا يساوي معدل التحول الخاص، وكذلك فإن معدل الإحلال الحدي بين السلعتين x و y لن يكون مساويا لمعدل التحول الاجتماعي، وبالتالي فإننا لن نكون بصدد وضع يعظم الرفاهية الاجتماعية، حيث أن الرفاهية يمكن أن ترتفع عن طريق تعديل PMc x ، أي التكلفة الحدية الخاصة بالسلعة x بصورة تعكس التكاليف الخارجية المرتفعة المتضمنة في التكلفة الحدية الاجتماعية للسلعة x (أي SMc x)، وأن هذا الارتفاع في التكلفة الحدية الخاصة PMc x للسلعة x، سوف يرفع سعرها السوقي، فينخفض مستوى الطلب على السلعة x ومن ثم إنتاجها فتتحرر بعض الموارد التي كانت مستغلة لإنتاج السلعة x فتستخدم لإنتاج سلع أخرى يرتفع التقييم الاجتماعي بشأنها.
نلاحظ مما تقدم أن شروط تعظيم الرفاهية الاجتماعية تكمن في المساواة بين معدل الإحلال الحدي في الاستهلاك بين السلعتين ومعدل التحول الحدي في الإنتاج بين نفس السلعتين. ولكن يجب أخذ كافة التكاليف والمنافع الخارجية في الحسبان إلى جانب التكاليف والمنافع الخاصة. وبصفة عامة، فإنه طالما أن نظام السوق يهمل هذه الآثار الخارجية الإيجابية منها والسلبية فلن يعمل هذا النظام على تحقيق التخصيص الأمثل للموارد ولن يعظم الرفاهية الاجتماعية.
-2-2 تقييم الآثار البيئية
أدى الاهتمام المتزايد بقضايا البيئة عامة والقضايا المصاحبة لعمليات التنمية خاصة إلى المطالبة بتقييم الآثار البيئية المختلفة لمشروعات التنمية في الدول حتى يمكن التعرف على المشكلات البيئية وتحديد أنسب طرق التعامل معها منذ بداية عمل هذه المشروعات عملا بالحكمة القائلة ( الوقاية خير من العلاج).
وذلك حتى يمكن تحقيق التوافق بين عمليات التنمية وحماية البيئة أو بمعنى آخر تحقيق ما يعرف بالتنمية المستدامة, ولقد لجأت هيئات دولية وإقليمية وقومية مختلفة إلى إدخال عمليات التقييم البيئية لمشروعات التنمية كجزء من دراسات الجدوى لهذه المشروعات لتحديد أفضل الخيارات لتنفيذها .
-2-2-1 عمليات تقييم الآثار البيئية
خلال العقدين الماضيين أدخلت مصطلحات مختلفة لوصف عمليات التقييم البيئي ما أدى إلى خلط بين موضوعين مختلفين: الأول هو تقييم الآثار البيئية المحتملة لمشروعات صناعية ما زالت في مرحلة التخطيط, أي المصنع لم يشيد ولم يبدأ العمل فيه, والثاني هو تقييم الآثار البيئية الناتجة فعلا من صناعة قائمة منتجة.
وقد أصدرت وزارة الصناعة بالتعاون مع وزارة الإدارة المحلية والبيئة دليلا لتقييم الآثار البيئية للصناعة السورية وفيما يلي وصف لهذين النوعين من التقييم البيئي وقائمة باسم الصناعات ذات الأولوية في ذلك.
أ- المشروعات الجديدة:
تتكون عملية تقييم الآثار البيئية المحتملة للمشروعات الصناعية الجاري التخطيط لها من (تخمين) أو (تقدير) للآثار البيئية المحتمل حدوثها نتيجة لتنفيذ هذه المشروعات على أرض الواقع.
وغالبا ما يتم ذلك في إطار دراسات الجدوى الاقتصادية والفنية للمساعدة على اتخاذ القرار المناسب واختيار أفضل البدائل المطروحة لتنفيذ هذا المشروع, وتختلف تفاصيل عملية التقييم البيئي طبقا لنوع المشروع وحجمه ولكن هناك إطار عام لهذا التقييم تلخصه الأسئلة التالية:
أولا: موقع إقامة المشروع الصناعي... هل سيتعارض مع مشروعات أخرى أكثر جدوى منه اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا مثل مشروعات زراعية أو سياحية أو سكانية..الخ.
وهل سيتحمل النظام أو النظم البيئية المحيطة بالموقع أحمال الملوثات الغازية والسائلة والصلبة التي ستنتج عن المشروع.
ثانيا:هل سيؤدي المشروع الصناعي المزمع إقامته إلى حدوث آثار صحية طويلة المدى, وما هي احتمالات حدوث كوارث صناعية من المشروع, وما مدى آثارها على الإنسان والبيئة المحيطة بالموقع.
ثالثا: ما هي آثار المشروع على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في المناطق التي سيقام فيها, وهل سيؤثر على مشروعات أخرى قائمة بالفعل في المنطقة وما مدى هذه الآثار.
رابعا: البنية الأساسية للمشروع هل تتوافر في الموقع وإذا لم تتوافر ما هي آثار إنشاء مكونات هذه البنية الأساسية, وكذلك هل تتوافر المصادر الطبيعية اللازمة للمشروع بالقرب من موقعه أم أنها ستنقل من مناطق أخرى وما آثار ذلك على البيئة. خامسا: العمالة اللازمة للمشروع ما هو حجمها وما آثار توطينها في المستوطنات البشرية الموجودة فعلا حول موقع المشروع على النواحي الاجتماعية والبيئية والاقتصادية.
سادسا: ما هي الملوثات المختلفة التي يمكن أن تصدر عن المشروع الصناعي وما هي الطرق التي ستتخذ للتعامل معها حفاظا على صحة العاملين بالمشروع والسكان المجاورين له والبيئة بوجه عام.
والمفروض أن تتم علمية التقييم البيئية هذه بالتفصيل مع تقدير مادي للآثار البيئية كلما أمكن ذلك وتحليل مفصل للتكاليف والمردودات على المدى البعيد حتى يمكن اتخاذ القرارات السليمة, وبعد الانتهاء من عملية التقييم البيئي يصدر ما يعرف باسم بيان أو تقرير الآثار البيئية وهو الوثيقة الرسمية التي تعد طبقا لنماذج محددة وتقدم مع دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية.
ب- الصناعات القائمة:
أما بالنسبة للصناعات القائمة فإن الدليل حاول أن يجيب على السؤال التالي: كيف يمكن التعامل مع التلوث الناجم عن هذه الصناعات وتقليل آثاره على صحة الإنسان والبيئية..؟
ويشير الدليل إلى أنه لابد أولا من التعرف على نوع وكميات هذه الملوثات بدقة حتى يمكن تحديد الطرق العملية المناسبة للتعامل معها ولقد أطلق على ذلك تعبير تقييم الآثار البيئية للصناعات القائمة, وهو تعبير مماثل لما أشير إليه أعلاه أي المستخدم في تقييم الآثار البيئية المحتملة للمشروعات الصناعية التي ما زالت في مرحلة التخطيط أو تسمى أحيانا المراجعة البيئية للمشاريع القائمة.
ولقد بدأ هذا الموقف يتغير تدريجيا خاصة منذ عقد المؤتمر الدولي للإدارة البيئية في الصناعة في منتصف الثمانينات في فرساي عندما بدأت صناعات كثيرة تقتنع أنه ينبغي التعامل مع مشكلة التلوث الصناعي بأسلوب موضوعي يتجنب التزمت والمبالغة في نتائج التلوث من جهة, ومن جهة أخرى يتجنب التساهل في معالجة المشكلة عن طريق اعتبار التلوث أحد العناصر التي يجب إدخال تكاليف التخلص من آثاره ضمن مكاسب مادية وأدبية كبيرة.
ومثال ذلك مشروع حفظ الطاقة الذي تقيمه سورية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي لرفع كفاءة استخدام الطاقة في الصناعة حيث تحقق الصناعات التي تطبقه أرباحا كثيرة نتيجة لخفض كميات الطاقة المستخدمة بالإضافة إلى خفض ملموس في كميات الملوثات الناتجة من حرق الوقود.
وأدى التغيير الكبير في مفهوم الصناعة لقضايا البيئة إلى تحول تدريجي للنموذج التقليدي للنشاط الصناعي ( الذي يحصل فيه المنتجون على المواد الخام وينتجون منتجات لكي تباع بالإضافة إلى توليد نفايات ينبغي التخلص منها) إلى نموذج أكثر تكاملا وتوافقا مع البيئة, فيما أطلق عليه تعبير ( النظام الصناعي الايكولوجي) أو عملية ( تخضير الصناعة) إشارة إلى الخضرة أو الحياة وفي هذا النظام يتم الاستخدام الأمثل للطاقة والمواد والتقليل إلى أقصى حد من توليد النفايات.
وأشار الدليل إلى أن صناعات كثيرة في الدول المتقدمة والنامية عكفت على تشخيص آثارها البيئية لوضع أفضل الوسائل العملية واستخدام أفضل الطرق التكنولوجية المتاحة للتعامل مع هذه الآثار والتقليل منها ولقد استخدمت بعض الهيئات تعبير ( تقييم الآثار البيئية) في حين يفضل البعض الآخر استخدام تعبير ( تشخيص الآثار البيئية) والبعض الثالث تعبير( الفحص أو الجرد البيئي) والواقع أنها كلها تؤدي إلى نفس الهدف وهو التعرف على مواطن العلة في الصناعة لمعالجتها.
-2-2-2 تقرير تقييم الأثر البيئي
ألحق بالدليل المواصفات الفنية لإعداد تقرير تقييم الأثر البيئي بحيث يعطي المعلومات المطلوبة لاتخاذ قرار الترخيص على أن يتضمن التقرير 12 بندا مختلفا.
وتشمل البنود الثلاثة الأولى ملخصا تنفيذيا وقائمة المحتويات ومقدمة تعرف المشروع وصاحبه وهدفه ومبرراته وأهميته للبلد ووصفا مختصرا لنوعية وحجم وموقع المشروع إضافة إلى نطاق الدراسة ( تقييم الأثر البيئي) ويشمل الجهة التي أعدت الدراسة، ويتطرق البند الرابع إلى إطار السياسات والأطر القانونية والإدارية وتشمل:
- المؤسسة ذات الصلاحية وإمكانياتها على المستوى المحلي والوطني.
- التشريعات البيئية وتلك المتعلقة بها والتنظيمات والسياسة المتبعة في البلد.
- التشريعات التي تحكم القطاع الذي يندرج تحته المشروع.
- المتطلبات البيئية لأي من المشاركين في التمويل.
- الاتفاقيات أو المعاهدات البيئية المطبقة والتي انضم إليها البلد.
ويضاف إلى ذلك مدى المشاركة العامة سواء من الجهات الرسمية أو من المنظمات غير الحكومية أو المجموعات المتضررة من المشروع.
أ- النواحي الاقتصادية والطبيعية
ويختص البند السادس من التقرير بوصف المشروع المقترح من حيث نوعه وموقعه وحجمه مزودا بالخرائط وقائمة بالنشاطات المرتبطة به، المطلوبة منه أولا والبرنامج المقترح للإنشاء والتشغيل ويشمل التقرير وصفا للبيئة المحيطة بالمشروع ضمن ثلاثة محاور نذكرها كما يلي:
المحور الأول: يعمل على البيئة الفيزيائية والكيميائية من حيث طبوغرافية وجيولوجية الأرض ودراسة تأثير الزلازل أو غيرها من الأخطار ودراسة المياه السطحية،المياه الجوفية، المقاييس البحرية والساحلية، الخدمات الموجودة لصرف المياه الملوثة ونوعية المياه والهواء المحيط ومصادر تلوث الهواء الموجودة،المناخ، الرصد الجوي والضجيج.
المحور الثاني: البيئة الجيولوجية بما فيها من النباتات والحيوانات والأسماك والكائنات الحية المائية والأنواع النادرة أو المعرضة للخطر والمناطق الحساسة ( غابات- محميات طبيعية- متنزهات طبيعية- الخ).
أما الثالث والأخير: فهو البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي تشمل العنصر الديموغرافي ( السكان- النسيج الاجتماعي- العمالة- توزيع المداخيل - العادات والتقاليد- تطلعات السكان- الخ ) ونشاطات التنمية ( البيئة التحتية- الصناعة - الزراعة- المؤسسات- السياحة- الترفيه- الخ).
كذلك استعمال الأراضي وحركة السير والصحة العامة والتراث الأثري والتاريخي والقيم الجمالية والقيم الحضارية والثقافية ( عادات وتقاليد وتطلعات).
ب- الإدارة السليمة
وإذا كان التقرير ملزما بتقييم الآثار البيئية المحتملة للمشروع ( الايجابية والسلبية) من النواحي الفيزيائية والكيميائية البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية، فإنه ملزم أيضا بتحليل البدائل للمشروع في حال عدم تنفيذه أو عبر مشاريع بديلة ذات الأهداف نفسها أو بإقامة المشروع ذاته مع تقنيات بديلة وذلك بمقارنة الإمكانيات المختلفة اقتصاديا وبيئيا.
ويتصدى التقرير في البند العاشر إلى خطة الإدارة البيئية السليمة عبر ثلاثة برامج, الأول للتخفيف من الآثار السلبية يشمل ملخصا عن الآثار البيئية المهمة وتفصيلا تقنيا لكل من التدابير التخفيفية ( على أي آثار يتم تطبيقها وما هي شروط تطبيقها - تصاميمها و تفصيل التجهيزات- إجراءات التشغيل) كذلك الآثار البيئية المحتملة لهذه التدابير وارتباط هذه التدابير ببرامج تخفيفية أخرى وحساب كلفة برنامج التخفيف من الآثار السلبية.
أما برنامج الرصد والمراقبة فيحوي تفصيلا تقنيا محددا لوسائل المراقبة ( المعايير الخاضعة لها - أساليبها - دوريتها- أماكنها- إجراء القياسات- حفظ المعلومات وتحليلها- إجراءات الطوارئ) إضافة إلى إجراءات رفع التقرير وموازنة مفصلة لاقتناء التجهيزات والإمدادات اللازمة وكلفة برنامج الرصد والمراقبة.
ويختص البرنامج الأخير بتقوية القدرات المؤسساتية عبر وصف مفصل للتدابير اللازمة للقيام بالإجراءات البيئية المذكورة: القيام بالتدابير التخفيفية وإجراءات المراقبة وبرامج المساعدة التقنية واقتناء التجهيزات والإمدادات والتعديلات التنظيمية وكلفة برنامج تقوية القدرات المؤسساتية.
ويخلص التقرير إلى تقديم خلاصة للربح الصافي العام الذي يبرر تطبيق المشروع وشرح كيفية تخفيف الآثار السلبية والاستعدادات المسبقة لمتابعة المراقبة ويرفق بملاحق عن محاضر المشاركة العامة والمستندات المرتبطة بالمشروع وجداول وبيانات بالمعلومات ولوائح بالتقارير ذات الصلة والمراجع العلمية وغير العلمية التي استعملت وأسماء معدي تقرير ( تقييم الأثر البيئي) أفرادا ومؤسسات.
-2-2-3 تقييم الآثار الخارجية السلبية
نعني بتقييم الآثار الخارجية السلبية اقتصاديا ذلك التقييم النقدي للتغيرات السلبية لأهم خواص المحيط الطبيعي من جراء الأنشطة الاقتصادية، بحيث يهدف القياس النقدي للأضرار البيئية إدخال العقلانية الاقتصادية في الاستثمار المرتبط بموارد البيئة غير القابلة للتقييم بأسعار السوق من أجل المحافظة عليها وترشيد استخدامها، ومفهوم الإحلال يسمح لنا بالتقييم النقدي للضرر البيئي، ويمكن أن نوضح ذلك باستخدام منحنيات السواء على النحو التالي:
الشكل رقم (I-10): منحنيات السواء بين التلوث والمنتجات
المصدر: الطاهر خامرة، المسؤولية البيئية والاجتماعية مدخل لمساهمة المؤسسة الاقتصادية في تحقيق التنمية المستدامة، مذكرة ماجستير، جامعة ورقلة، 2007، ص 54.
تختلف منحنيات السواء هذه عن منحنيات السواء الكلاسيكية التي تتعلق بمنتوجين، فهذه المنحنيات تتعلق بمنتوج وضرر التلوث، تمثل المنحنيات C3,C2,C1توليفات بين التلوث والمنتجات والتي تتساوى من حيث مستوى الإشباع، فوجود كل من a وb على نفس المنحنى C2 يعني أن الحصول على B1 من المنتجات وP1 من التلوث كالحصول على B2 من المنتجات وP2 من التلوث.
إذا افترضنا ثبات كمية المنتوجات فإن كمية التلوث تزداد كلما انتقلنا من منحنى سواء إلى آخر أقل مستوى إشباع، وكما هو موضح في الشكل الانتقال من a إلى c وبالتالي يمكن أن نقيس الضرر الذي يحدثه التلوث نقدا، ويساوي في هذه الحالة B1B2 (الزيادة في المنتوجات B1B2 تعوض الزيادة في التلوثP1P2 وهي تقيس الضرر النقدي الذي أحدثه زيادة التلوث).
يعرف الضرر النقدي عدة مشاكل نظرية وعملية، فمثلا في حالة الموت فلا توجد أي كمية من المنتجات التي بإمكانها تعويض فرد عن موته، فيشكو تقييم الضرر من لا يقين بسبب الشكوك العلمية الخاصة بعلاقات وتفاعلات الأنظمة الحيوية بالإضافة إلى الشكوك الاقتصادية المتعلقة بأساليب التقييم الاقتصادية ومصداقية استخدامها في المجالات البيئية، فمعظم التقنيات الاقتصادية المستخدمة في التقييم النقدي للآثار البيئية تعتبر طرق تقريبية.
-2-I3 الفوائد الهامشية والتكاليف الهامشية للتطورات البيئية
فيما سبق ناقشنا التكاليف الاجتماعية المترافقة مع إنتاج السلع والخدمات التي يتم استهلاكها في الأسواق. وسوف نتابع العمل على هذا المفهوم قليلا من خلال افتراض وجود سوق للتطور البيئي، أي بدلا من التركيز على إنتاج السلع والخدمات التي نفكر فيها عادًة مثل السيارات والكتب فإننا سوف نفكر الآن بإنتاج التلوث وكيف يمكننا تحليل مكافحته.
في البدء نقوم بتحديد ما نعنيه بالتطور البيئي، بأنه التطور البيئي الذي يعزز بيئتنا وهذا التعبير يستخدم في الاقتصاد البيئي ليعني مجموعة من التغيرات في الظروف البيئية المحلية أو العالمية :
• تخفيض التلوث (أي تخفيض المخلفات الغذائية من معامل معالجة المياه الحكومية وتخفيض إطلاق الدخان).
• تنظيف أماكن التسرب و التخلص من "الكوارث" البيئية (مثل إكسون فالديز).
• تخفيض خسائر مساحات المواطن الطبيعية (مثل قوانين تخفيض تحويل الأراضي البرية لاستخدامات أخرى وحماية التنوع الحيوي).
• تنفيذ خطط حماية المواطن الطبيعية (مثل تجنب خسارة الأصناف المعرضة للخطر).
• الإنفاق الدفاعي (مثل شراء المياه المعبأة).
ويمكن أن تكون القائمة أطول، ومع ذلك فإن هذا يشير إلى أن "التطورات البيئية" تنطوي على كل ما يحسن البيئة.
-2-I3-1 المنافع الحدية
يشير الاقتصاديون إلى نظرية تراجع المنافع الحدية عند دراسة التطورات البيئية. ومثل أية سلعة أخرى يشير الاقتصاديون إلى أن التطورات البيئية (أو الموارد البيئية) لها خصائص مشابهة للسلع الأخرى التي تستهلك بشكل يومي. لذا فيفترض الاقتصاديون أن الفوائد الحدية للتطورات البيئية تنحدر باتجاه الأسفل .
أي يستخدم الاقتصاديون الدالة التي تقارن نوعية التطورات البيئية مع قيمة الفوائد من كل وحدة إضافية للتطور البيئي . وتعرف مثل هذه العلاقة بمنحنى المنافع الحدية مثل المنحنى المبين في الشكل رقم (I-11) أدناه.
ماذا يعني منحنى الفوائد الحدية ؟
• إنه منحنى الطلب على تطور نوعية البيئة، وهو يشير إلى العلاقة بين الرغبة في الدفع ونوعية تطوير البيئة المختار مثل منحنى الطلب على السيارات أو أية سلعة أخرى يمكن أن نفكر فيها والتي يتم إنتاجها وشراؤها في السوق، وكالعادة فإن الرغبة الحدية في الدفع مقابل كمية قليلة من التطور البيئي تكون مرتفعة عادًة، أما الرغبة الحدية للدفع مقابل التطور البيئي فهي منخفضة فيما لو كانت الكمية كبيرة .
• ويمثل منحنى الفائدة الحدية البديل بين التطور البيئي والأمور الأخرى التي يمكن أن نفعلها بالدخل. فعلى سبيل المثال يمكننا استخدام الدخل لشراء منتجات تباع في السوق لتعليم أولادنا أو لشراء التطورات البيئية الأخرى.
وعندما تؤثر إحدى الآثار الخارجية على السوق فيمكن استخدام منحنى الفائدة الحدية لتحديد المنافع التي سيحصل عليها المجتمع عندما نقوم بتخفيض الآثار الخارجية. فعلى سبيل المثال في الشكل المبين أعلاه يكون إجمالي المنافع للمجتمع هو تحسين البيئة بمقدار المسافة إلى E* وهي المساحة . A + B
إن هذا الأمر مشابه لقيامنا بقياس فائض المستهلك باستثناء الحالة التي لا نقوم فيها بشراء السلع في تلك السوق، لذا فإننا نستخدم كامل المساحة A + B لقياس المنافع بدلا من المساحة A فقط، وينفق علماء الاقتصاد البيئي طاقة و وقتًا كبيرين في محاولة تحديد شكل هذا المنحنى. وقد قاموا بتنفيذ هذا العمل لمجموعة من التطورات البيئية المختلفة التي تضم تحسين نوعية الهواء والماء وحماية الأصناف المهددة بالخطر والتنوع الحيوي وحماية الأراضي البرية وتنظيف تسرب النفط وغيرها .
لاحظ أن منحنى المنفعة الحدية مشابه للتكاليف الاجتماعية الحدية التي قمنا بدراستها سابقًا. وتظهر التكاليف الاجتماعية عندما تؤدي فعاليات الإنتاج إلى الأضرار البيئية. وتقوم المنافع الحدية بقياس احتياطي هذا الأمر، أي منافع إلغاء أو تخفيض التكاليف الاجتماعية، وهي تقيس نفس الشيء ولكن باستخدام مقاييس مختلفة.
الشكل رقم (I-11): منحنى المنفعة الحدية للتطورات البيئية
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص101.
-2-I3-2 التكاليف الاجتماعية
على الجانب الآخر من معاجلة تقييم التطورات البيئية تقع التكلفة، حيث إن تكلفة التطورات البيئية هي التكاليف المباشرة للفعاليات التي تحسن البيئة، وكما هو الأمر بالنسبة للمنافع البيئية فإننا نشير إلى ما تعلمناه سابقًا. ونلاحظ أن منحنى التكلفة الحدية يتجه نحو الأعلى، أي أن القليل من التنظيف البيئي قد يكون منخفض التكلفة ولكنه يصبح أكثر تكلفة كلما قمنا بتنفيذه.
الشكل رقم (I-12): منحنى التكاليف الحدية للتطورات البيئية
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص101.
لذا فإن منحنى التكلفة الحدية يمكن أن ينظم أو يقدر. وقد يكون مسطحًا ولكن نادرًا ما يجد الاقتصاديون أنه يتجه نحو الأسفل. إن المساحة C في الشكل (I-12) هي إجمالي تكاليف تنظيف البيئة في النقطة E*.وهي المساحة الواقع تحت منحنى التكاليف الحدية .
ما هي أنواع الفعاليات التي ينطوي عليها منحنى التكاليف الحدية ؟
• تخفيض الإنتاج (مثال قوانين المبيدات الحشرية التي قد تخفض أو تلغي استخدام نوع معين من المبيدات أو المواد الكيماوية الأخرى ولكن هذه التخفيضات قد تؤدي إلى تخفيض الإنتاج الزراعي أيضًا).
• نتائج مكافحة التلوث (أي تركيب تقانة جديدة لتخفيض التلوث الذي تطلقه الشركات أو عوادم السيارات).
• تخفيض الأضرار الحالية (أي تنظيف جميع مناطق تسرب النفط).
• الإنفاق الدفاعي (أي شراء المياه المعبأة و منقيات الهواء ومنبهات الدخان وغيرها).
وكما هو الأمر بالنسبة للمنافع الحدية فيمكن لمنحنى التكلفة الحدية أن يمثل مجالا واسعًا من الفعاليات لتخفيض انعكاس الآثار الخارجية البيئية. وتكمن النقطة الأساسية في أن التطورات البيئية لا تأتي بشكل مجاني، فهي تحتاج لتكلفة ويتوجب علينا الإنفاق من أجل تخفيض الآثار الخارجية .
-2-I3-3 المستوى المثالي للتلوث
نظرًا لأن التطورات البيئية تنطوي على منافع ومكاسب للمجتمع، فإن هناك معادلة بين كم التطورات الذي نرغب بتحقيقه وكم المال الذي نرغب بإنفاقه. إن الربط بين المنافع الحدية والتكاليف الحدية ضمن شكل واحد يوفر بعض المؤشرات حول البدائل وكم أن التطور البيئي كفء من الناحية الاجتماعية .
يظهر الشكل(I-12) أن نقطة التوازن تظهر عند (WTP*, E*) أو عندما تكون الفوائد الاجتماعية مساوية للتكاليف الاجتماعية. وتعرف هذه النقطة ما يسميه علماء الاقتصاد الكم المثالي أو كم التلوث الكفء اجتماعيًا، وهو يشير إلى أن التكاليف الاجتماعية يمكن أن تصل إلى الحد الأعظم من خلال تخفيض التكاليف إلى حد معين ولكن الكم الكبير من تخفيض التلوث مكلف جدًا بالنسبة لنا. وتسمى نقطة الكفاءة الاجتماعية بهذا الاسم لأنها تعظم صافي الرفاه الاجتماعي للتطورات البيئية.
هل يمكن لنا أن نعرف لماذا يتم تعظيم صافي التكاليف الاجتماعية عند هذه النقطة ؟ من أجل التعرف إلى هذا الأمر يجب تذكر أن صافي المنافع الاجتماعية للتطورات البيئية تقاس بالمساحة الواقعة تحت منحنى الطلب، وللتطوير إلى النقطة E* فإن تلك المساحة هي A + B + C. وكذلك الأمر فإن التكاليف الإجمالية للتطور البيئي حتى E*هي C.
الشكل رقم (I-13): الفوائد الحدية- التكاليف الحدية- الحد الأمثل للتطور البيئي
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص102.
إن صافي المنافع الاجتماعية هي المنافع الإجمالية مطروحًا منها التكاليف الإجمالية أوTB-TC=NSB. لذا فإننا نحاول أن نعظم TB – TC، وعندئذ يكون السؤال في إيجاد النقطة الواقعة على محور السينات التي تعظم صافي المنافع الاجتماعية . وبدلا من اشتقاقها فنحن نلاحظ أنها النقطة التي تتساوى فيها المنافع الحدية مع التكاليف الحدية. وتظهر نقطة الكفاءة الاجتماعية عندما تكون MC = MB. وفي تلك النقطة يتم حساب صافي المنافع الاجتماعية على أنها A + B = A + B + C – C = NSB.
إن الفكرة القابلة بأن المنفعة الحدية تساوي التكلفة الحدية في نقطة الكفاءة الاجتماعية هي إحدى أهم المفاهيم التي أدخلها الاقتصاديون عند مناقشة القضايا المتعلقة بالبيئية، فهي تمثل جوهر البدائل وإن تحديد ما إذا كانت فوق أو تحت تلك النقطة هو المجهود الأساسي الذي يبذله الاقتصاديون اليوم.
لنفكر بهذا الأمر بطريقة أخرى ، حيث سنركز على النقطة E* للحظة، ولنفترض أننا قد قمنا بتنظيف البيئة إلى تلك النقطة، إذا قمنا بتنظيف البيئة بشكل أكثر من ذلك فتكون منفعة ذلك التنظيف الزائد أقل من تكلفته، لاحظ أننا نركز الآن فقط على ذلك التنظيف الزائد. ولكن تكاليف ذلك التنظيف الزائد أكبر من فوائده نظرًا لأن منحنى التكاليف الحدية فوق منحنى المنافع الحدية، وبالتنظيف أكثر قليلا يمكنك أن تخفض صافي المنافع الاجتماعية نظرًا لأن التكاليف تفوق المنافع.
وبشكل مشابه فكر بما سيحدث لو قمنا بتخفيض تنظيف البيئة بشكل أقل من النقطة E*، عندئذ تصبح المنافع الحدية أعلى من التكاليف الحدية للوحدة الأخيرة من التنظيف، وهذا يعني أنه يمكنك أن تكسب المزيد من صافي التكاليف الاجتماعية بالتنظيف أكثر بقليل.
بكلا الطريقتين سواء أكانت أدنى أو أعلى من نقطة الكفاءة الاجتماعية فإننا لا نقوم بتعظيم صافي الفوائد الاجتماعية، فالمخاوف حول تنظيف البيئة أو تطويرها غالبًا ما تظهر سواء أكنا فوق تلك النقطة أو تحتها، أو بمعنى آخر سواء أوفر التنظيف الإضافي منافع أكثر من التكاليف أم لا، وهذا بالتأكيد يشل تحليل المنفعة – التكلفة .
يظهر الشكل (1-12) أنه عند وجود الآثار الخارجية فإن التطورات البيئية غالبًا ما تكون أكثر ملائمة لنا، وتظهر المخاوف السياسية غالبًا عندما نبدأ بتوزيع المسؤوليات أو عندما نقدر منافع وتكاليف تلك التطورات البيئية وعندما نقرر من يجب أن يتمتع بالمنافع ومن يجب أن يتحمل التكاليف.
مقدمـة عامـة
تفاقمت المشاكل البيئية والاجتماعية في مختلف دول العالم وخاصة المتقدمة منها والنامية في عصر المنظمات الكبيرة والعولمة، ولكي لا تتبعثر الجهود وتضيع المسؤوليات فلا بد من تضامن الجميع، وهذا الأمر يتطلب تطوير النظرة ومن ثم الدور الذي تلعبه منظمات الأعمال في النشاط الاقتصادي من جهة والنشاط الاجتماعي من جهة ثانية، باعتبار أن لها حقوق وعليها التزامات تجاه المجتمع، وبما أنها تتمتع بخيرات المجتمع ضمن مختلف موارده الطبيعية والمادية والبشرية، فلا بد من المساهمة في حل مشاكله ضمن إمكانياتها وقدراتها، وهذا ما يضعنا في موقع الاعتراف بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات جنبا إلى جنب مع المسؤولية المالية لأصحابها.
وفي ضوء ذلك على المؤسسات أن تساهم في تحقيق رفاهية المجتمع عن طريق تحسين الظروف البيئية والحد من الآثار السلبية التي يسببها نشاطها للبيئة المحيطة عن طريق تقليص التلوث وتحقيق التنمية الاقتصادية، وكما أن رعاية شؤون العاملين وتحقيق الرفاهية الاجتماعية لهم والاستقرار النفسي سيخلق عندهم الثقة وحس الانتماء للمؤسسة، فيجعلهم أكثر إنتاجية من خلال تنمية قدراتهم الفنية والإنتاجية وتوفير الأمن الصناعي لهم. وذلك ما تطرق إليه في مؤتمر جوهانسبورغ 2002 حول التنمية المستدامة، حيث تم الإعلان على أكثر من 300 اتفاقية شراكة بين السلطات العمومية والقطاع الخاص كآليات للوصول إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة مكملة للجهود الحكومية، كما عملت مجموعة كبيرة من الشركات الكبرى إلى النشر الطوعي للمعلومات المتعلقة بالأداء البيئي والاجتماعي في تقارير النشاط وهو ما يفسر الإدماج المتزايد للبعد البيئي في إستراتيجية هذه المؤسسات.
كما تهتم دراستنا ببيان دور المعلومات المحاسبية في قياس وتقييم مستوى الأداء الاجتماعي للمؤسسات الصناعية للكشف عن مدى وفاء تلك الوحدات بمسؤولياتها الاجتماعية، حيث إن التطورات الاقتصادية المتسارعة باتت تلزم المحيط المحاسبي بضرورة تعديل النموذج الاقتصادي التقليدي المبني على فلسفة تعظيم الربحية الفردية ليضم أبعاد اجتماعية تمثل الفيصل في جدوى قيام تلك المؤسسات. لأن تحديد وسائل قياس وتقييم الأداء لاجتماعي سيؤدي إلى الكشف عن حجم العوائد الاجتماعية المتولدة من أنشطة المؤسسات الصناعية ويسعى بالتالي إلى توجيه وتحفيز تلك المؤسسات نحو تحقيق المزيد من العوائد أو المنافع لغرض تعظيم هامش الربحية الاجتماعية، وعليه فان التقرير عن نتائج الأداء الاجتماعي للوحدات الاقتصادية بصورة عامة لم يعد خيارا مطروحا بل أصبح ملزم الكشف عنه ضمن تقاريرها السنوية التقليدية وذلك لإظهار مدى قدرة الوحدة على الإيفاء بمسؤولياتها الاجتماعية.
استنادا إلى ما تقدم فقد اتجه البحث نحو مناقشة ماهية المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة وكيفية ترسيخ مفهوم الأداء الاجتماعي والموازنة بين التكاليف والمنافع الاجتماعية، ولغرض إبراز أهمية الفكر النظري لهذه الدراسة فقد تم اختيار عينة البحث الممثلة في مؤسسة آرسيلور ميتال عنابة لاستخدام وسائل القياس المختارة
وتحليل النتائج لتقييم مستوى أدائها الاجتماعي ومن ثم مساهمتها في الربحية الاجتماعية، ما أبرز لنا معالم الإشكالية التي نعمل على معالجتها من خلال الإجابة على التساؤل الرئيسي التالي:
- ما مدى فعالية المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة كمعيار للتنمية المستدامة ؟
ويمكن تجزئة سؤال الإشكالية إلى الأسئلة الفرعية التالية:
- هل تبني المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات ضرورة وطنية تحتاجها متطلبات التنمية الاقتصادية لتحديد موقع مختلف المؤسسات ودورها في الوصول إلى تنمية مستدامة ؟
- هل هناك أدوات ووسائل لتجسيد المسؤولية البيئة والاجتماعية بالمؤسسة ؟
- هل يمكن قياس وعرض عناصر عوائد وتكاليف الأداء الاجتماعي للمؤسسة الاقتصادية ؟
- ما مدى تحمل المؤسسة محل الدراسة (آرسيلور ميتال عنابة) للمسؤولية البيئية والاجتماعية ؟
فرضيات الدراسـة:
- أن تبني المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة ضرورة وطنية تحتاجها متطلبات التنمية الاقتصادية لتحديد موقع مختلف منظمات الأعمال ودورها في حل المشاكل الاجتماعية والبيئية في عصر العولمة واندماج الشركات.
- هناك أدوات ووسائل لتجسيد المسؤولية البيئية والاجتماعية بالمؤسسات.
- أن أغلب عناصر عوائد وتكاليف الأداء الاجتماعي يمكن حصرها وإخضاعها للقياس الكمي بشكل موضوعي ودقيق من خلال مجموعة من الأساليب والمعادلات الخاصة بذلك.
- تلتزم المؤسسة محل الدراسة (آرسيلور ميتال عنابة) بتحمل لمسؤوليتها البيئية والاجتماعية .
أسباب اختيار البحث :
- حاجة و متطلبات البيئة الاقتصادية لمثل هذه الدراسات.
- حداثة الموضوع في ميدان البحث العلمي في الجزائر.
- طبيعة التخصص.
هدف الدراسـة :
يهدف البحث إلى تسليط الضوء على موضوع هام يتعلق بالمؤسسات الاقتصادية والتزاماتها البيئية والاجتماعية بغرض المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة وذلك من خلال إبراز مجموعة من الإجراءات الطوعية، كما يهدف إلى إلقاء الضوء على محاسبة المسؤولية الاجتماعية والوقوف عند أهم مشاكلها، التعرف على معايير تقييم الأداء الاجتماعي القابلة للقياس الكمي والتي تصلح لقياس موقف المؤسسات من خلالها، وفي الأخير محاولة وضع نموذج لتقييم كفاءة الأداء الاجتماعي في منشأة صناعية كدراسة ميدانية.
أهمية الدراسـة :
إن المجال البيئي والاجتماعي غير من مسار واتجاه المنافسة الاقتصادية التي لا تعترف بالقيود الاجتماعية التي كانت كثيرا ما تعتبرها المؤسسات الاقتصادية العائق الذي يخل حركة نموها بدعوى أنه يتنافى و تحقيق الأرباح الاقتصادية، حيث وجدت المؤسسات الاقتصادية نفسها أمام معادلة صعبة الحل هي الموافقة بين الأهداف الاقتصادية والأهداف الاجتماعية لتدخل هذه المؤسسات في دائرة تنافسية جديدة تدرسها إشكاليتنا لتبين حدود ومجالات المسؤولية البيئية والاجتماعية ومدى أهميتها لتحقيق التنمية المستدامة.
حدود الدراسـة :
إن الدراسة التطبيقية تعلقت بمؤسسة آرسيلور ميتال عنابة، ويرجع اختيارها استنادا إلى المعيارين التاليين:
- المؤسسة المختارة تنتمي إلى قطاع يعطي تأثير عملياته نتائج مهمة على موارد المجتمع الاقتصادية والبيئية
- يتسع مجال العمليات المرتبطة بالأداء البيئي والاجتماعي (التي تقوم بها المؤسسة المختارة) ليشمل جل العمليات البيئية والاجتماعية.
أما فيما يخص الإطار الزمني فحددت سنة 2008 كسنة أساس للدراسة لحصر العمليات البيئية والاجتماعية للتمكن من قياسها وعرضها وصياغة نتائج بخصوصها.
منهج الدراسـة :
لدراسة هذا الموضوع استخدمنا المنهج الوصفي والتحليلي، حيث تطرقنا إلى الإطار النظري للتنمية المستدامة، إلى جانب استخدامه كأساس لقياس المسؤولية البيئية والاجتماعية، كما استخدمنا المنهج التجريبي لإسقاط الجانب النظري على واقع المؤسسة محل الدراسة.
ولدراسة هذا الموضوع قمنا بتقسيمه إلى أربعة فصول أساسية وهذا التقسيم كان نتيجة طبيعية لموضوع الدراسـة، حيث في الفصل الأول قمنا بعرض العلاقة بين البيئة والتنمية، بالإضافة إلى توضيح للتنمية المستدامة ( المفاهيم، الأبعاد والمؤشرات ) وبعدها تحدثنا عن الآثار الخارجية للمؤسسة الاقتصادية وتقييم هذه الآثار إلى جانب التطرق للأدوات التقليدية للسياسة البيئية.
في الفصل الثاني أبرزنا ماهية أخلاقيات الأعمال والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسة، أصحاب المصالح، اتجاهات المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة، مسؤولية المؤسسات الاجتماعية في التجربة العالمية، محفزات تطبيق المسؤولية الاجتماعية وآليات تنظيمها.
وفي الفصل الثالث بينا قوانين العمل ومعايير توطين المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة، قياس وعرض المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة وذلك بالتطرق إلى محاسبة المسؤولية الاجتماعية، قياس مؤشرات الأداء البيئي والاجتماعي للمؤسسة، تقديم وقياس كفاءة الأداء الاجتماعي للمؤسسة.
أما عن الفصل التطبيقي وبعد تقديم المؤسسة محل الدراسة تم تحديد أنشطتها ذات المضمون البيئي والاجتماعي ثم تعرضنا إلى قياس وتقييم المساهمات البيئية والاجتماعية للمؤسسة لينتهي الفصل بعرض نتائج القياس وفي الأخير تم توضيح نتائج الدراسة المتعلقة بالجانبين النظري والتطبيقي مرفقة بتوصيات من شأنها أن تجسد خطوة لدراسة هذا الموضوع من جوانب أخرى متعددة.
وخلال إعدادنا لهذا البحث اعترضننا بعض الصعوبات أهمها نقص المصادر التي تعالج موضوع المسؤولية البيئية والاجتماعية للمؤسسة الاقتصادية نظرا لحداثة الموضوع، أما على مستوى الجانب التطبيقي لم يكن بالأمر السهل، حيث كانت المعلومات المتعلقة بموضوعنا موزعة على مستوى عدة جهات الأمر الذي أدى بنا إلى تكرار الزيارات وتكثيف المقابلات للحصول على معلومات كافية تمكننا من إجراء الدراسة وتم هذا بعد طول انتظار لنأخذ في بادئ الأمر مجرد تلميحات وإشارات خاطفة عن أعمال ونشاطات المؤسسة فيما يخص العمليات ذات المضمون البيئي والاجتماعي، إلا أن تدخل المشرف شخصياً بمرافقتنا إلى المؤسسة محل الدراسة والحديث مع المسئولين سهل لنا عملنا بعض الشيء وبإصرارنا استطعنا أن نقطع شوطا للتعرف على ذلك بعد اكتساب المعلومة والمعرفة بشأنه بقدر ما أمكن وتقديم البحث.
الفصل الأول
دراسة الآثار الخارجية للمؤسسة الاقتصادية في ظل التنمية المستدامة
تمهيـد:
شغلت قضية التنمية المتواصلة بيئيا اهتمام الكثير من المفكرين في جل التخصصات العلمية بسبب الآثار السلبية الناتجة عن التنمية المنتهجة خاصة في المجال الصناعي لتلوث التربة والهواء والماء، والتي أثرت بشكل كبير على صحة الإنسان وحياته وحياة الكائنات الحية الأخرى.
وتيقن العالم اليوم أكثر من ذي قبل أن المشكلات البيئية والاجتماعية تولدت كنتيجة حتمية للطريقة التي انتهجت لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مما تطلب التفكير في نوع جديد من التنمية يراعى فيها شروط المحافظة على البيئة والاستقرار الاجتماعي في إطارهم المتوازن، وهي ما تسمى بالتنمية المستدامة.
لذا أصبحت تلك المشاكل تكتسي أهمية كبيرة على كافة المستويات وبالتالي انشغلت بها جميع الدول وانعقدت من أجلها العديد من المؤتمرات المحلية والدولية، واهتم بها الكثير من المفكرين والعلماء وحتى عامة الناس، ونحن في فصلنا هذا نحاول تقديم كيف تكون هناك تنمية اقتصادية تتلاءم مع أهداف التنمية المستدامة في الحفاظ على البيئة وتحقيق عدالة اجتماعية من خلال التطرق إلى المباحث التالية:
- التنمية المستدامة ( طبيعتها، تطور مفهومها، مقوماتها وأبعادها)
- الآثار الخارجية وتعظيم الرفاهية الاجتماعية ( نظرية الآثار الخارجية، تقييم الآثار البيئية، الفوائد الهامشية والتكاليف الهامشية للتطورات التطورات البيئية).
I-1 التنمية المستدامة
I-1-1 طبيعة التنمية المستدامة وتطور مفهومها
سنتناول في هذا الفرع طبيعة وتعريف التنمية المستدامة ومراحل تطور مفهومها التاريخي.
I-1-1-1 طبيعة التنمية المستدامة
ماذا تعني الاستدامة ؟ وما هي التنمية المستدامة ؟ من أجل الإجابة على هذين السؤالين يجب أن نبدأ بملاحظة أن واحدة من أكبر مشكلات التواصل بين الفلاسفة وعلماء البيئة وعلماء الاقتصاد هي أنهم جميعًا لديهم فهم ضعيف نسبيًا لمفاهيم بعضهم البعض، وبشكل عام :
• النظرية الاقتصادية تساهم من خلال التركيز على الكفاءة الاقتصادية وحقوق الموارد.
• النظرية البيئية تساهم من خلال التركيز على تشغيل النظم البيئية و المحافظة على التكامل البيئي.
• نظرية العدالة والمواقف الأخلاقية التي تحيط بها تساهم من خلال التركيز على العواقب التوزيعية لبدائل السياسات.
إن الاستدامة تعنى بهذه النظريات الثلاث ، حيث استخدم مصطلح الاستدامة للتعبير عن طبيعة العلاقة بين علم الاقتصاد Economy وعلم الايكولوجي Ecology على اعتبار أن العلمين مشتقان من نفس الأصل الإغريقي ، ونقتبس النص التالي من المفوضية العالمية للبيئة والتنمية (1987): "تشمل التنمية المستدامة ما يزيد على النمو. فهي تتطلب تغيرًا في محتوى النمو بحيث يصبح أقل مادية واستخدامًا للطاقة وأكثر عدالة في تأثيراته. ويجب تحقيق هذه التغيرات في جميع الدول كجزء من مجموعة الإجراءات للمحافظة على رأس المال البيئي ولتحسين توزيع الدخل وتخفيض درجة الحساسية للأزمات الاقتصادية.
حيث كان الاعتقاد حتى بداية السبعينات من القرن الماضي، أن النمو الاقتصادي يقوم على حساب حماية البيئة، وأنه لا يمكن الجمع بين هذين التوجهين، وأن أي تحسين في نوعية البيئة يعني إعاقة النمو الاقتصادي، كما أن أي نمو اقتصادي يعني القضاء على البيئة وتدميرها.
ومع الكوارث التي شهدها العالم في تلك الفترة، فسح تدريجيا المجال للعمل على تحقيق المزيد من السلام والعلاقات بين الاقتصاد والطبيعة، والذي يسعى إلى التوفيق بين التنمية والحفاظ على البيئة. لأنه من غير الممكن العمل على وقف النمو، وإنما للتأثير في مضمونه وتوجيهه على نحو مستدام.
لنلقِ نظرًة أعمق على الآراء المختلفة المتعلقة بالتنمية المستدامة :
أ- علماء الاقتصاد
من أجل إلقاء الضوء على مبدأ التنمية المستدامة من وجهة النظر الاقتصادية من المهم أن نميزها عن المفاهيم الأخرى ذات العلاقة مثل : النمو الاقتصادي – النمو الاقتصادي المستدام – التنمية الاقتصادية .
• النمو الاقتصادي : هو زيادة حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي مع مرور الوقت .
وهذا لا يعني أن التنمية التي تلاحظ في أي وقت من الأوقات هي تنمية "مستدامة" .
• التنمية الاقتصادية : هي مفهوم أوسع من مفهوم النمو الاقتصادي فهي تضم مفاهيم "التنمية ":
- تحسين نوعية حياة السكان وخاصة الفقراء منهم، وتصبح زيادة الدخل هي العامل الأساسي هنا .
- تحسين المهارات والمعرفة والإمكانات والخيارات .
- تحسين الحقوق المدنية والحريات مثل الاستقلالية وحقوق التمثيل السياسي .
إن هذا التعريف لا يتضمن الأفكار المتعلقة بالاستدامة البيئية، وقد لفت علماء الاقتصاد البيئي اهتمام علماء الاقتصاد التقليديين إلى الأفكار المتعلقة بتعريف النمو بعدة طرق تتضمن قيمة الأصول البيئية وأهمية المحافظة على الخدمات البيئية الأساسية ورأس المال الطبيعي، وتمثل التعريفات التالية التي وضعها علماء الاقتصاد البيئي هذه المفاهيم بشكل ملائم :
"التنمية الاقتصادية المستدامة تنطوي على تعظيم المكاسب الصافية من التنمية الاقتصادية شريطة المحافظة على الخدمات ونوعية الموارد الطبيعية على مرور الوقت" (بيرس و زملاؤه – 1987)
"التنمية الاقتصادية المستدامة ... تشير إلى الحد الأمثل من التداخل بين نظم ثلاث : البيئي والاقتصادي والاجتماعي من خلال عملية تكيف ديناميكية للبدائل" (باربيير – 1989)
وتضم البدائل التي يعرفها باربيير استبدال رأس المال الطبيعي برأس المال الاصطناعي إلى حد أن الأجيال المستقبلية لا تزال تتوارث نفس القدر من رأس المال.
ب – علماء البيئة
قد يشير علماء البيئة والموارد والأحياء إلى أن المحيط الحيوي هو الذي يحتاج لأن يكون مستدامًا، وهم يبحثون عن حماية التنوع الحيوي والوراثي بالدرجة الأولى، ومن علماء البيئة الذي كرسوا اهتمامًا كبيرًا لمبادئ التنمية الزراعية المستدامة هو جي كونواي الذي يعالج مفهومه للاستدامة ميل النظام لمقاومة الانهيار في أزمة ما،وهو يتعلق بصلابة أو استمرارية النظام :
"الاستدامة هي القدرة على المحافظة على الإنتاجية سواء أكانت كحقل أو مزرعة أو أمة في وجه الأزمات أو الصدمات" (كونواي و باربيير – 1990).
إن بعض النظم الزراعية منتجة بشكل كبير ولكنها تتعرض لخطر كبير يتعلق باستدامته، وإن علماء البيئة قلقون بشأن الزراعة الصناعية التي تصبح عرضة أكبر للخطر من حيث الاستدامة نظرًا لتزايد اعتمادها على قاعدة وراثية أضيق مما كانت عليه في أي وقت مضى، لذا فيركز الكثير من علماء البيئة على الحاجة لحماية التنوع الوراثي من خلال حماية المناطق الطبيعية التي تحتوي على أصناف محتملة أو المحافظة على البنوك الصناعية للمواد المتجددة .
ومع ذلك فمن المهم أن لا نعمد إلى التصنيف أو التعميم المفرط حول مفهوم النظم الزراعية الحديثة الأقل استدامة والأكثر إضرارًا بالبيئة الطبيعية حيث أن هذه الحالات هي حالات استثنائية، كما يجب توضيح كيفية قياس الاستدامة وكيفية اتخاذ القرارات والأحكام بين أنماط مختلفة من الاستدامة.
إن المسائل الأكثر تطورًا تتساءل حول ما إذا كان النمو مطلوبًا من وجهة النظر البيئية، حيث يناقش التعريف التالي من ناحية الديناميكا الحرارية فكرة أن "عدم النمو" أمر مفضل :
"إن التنمية المستدامة التي تعتمد على الأنماط السائدة من استخدام الموارد غير قابلة للفهم حتى من الناحية النظرية ... إن التعريف الجديد للتنمية المستدامة ... هو التنمية التي تقلص استخدام الموارد إلى الحد الأدنى وتزيد الإنتروبيا العالمية" (رييز – 1990)
ومع ذلك يشير الكثير من علماء البيئة إلى أن "عدم النمو" لا يشكل حلا ملائمًا. ويمكن لبعض النمو أن يساعد على منع التدهور البيئي ، لذا فهو أمر مطلوب مثل تطوير "التقنيات النظيفة" (مثل الطاقة الشمسية، ولكن يجب تجنب التقنيات والنمو الذي يضر بالبيئة.
ويشير علماء البيئة إلى أن علماء الاقتصاد بحاجة للمزيد من الاهتمام بالنواحي البيئية والأخلاقية،كما أن تعبير "التنمية المستدامة" يشير إلى أن دروس البيئة يمكن (بل يجب) أن تطبق على العمليات الاقتصادية، وهي تشمل أفكار إستراتيجية الحماية العالمية التي توفر مبررًا بيئيًا يمكن من خلاله تحدي واختبار دعوات التنمية لتطوير نوعية الحياة" (ريديليفت 1987)
ج- علماء الاجتماع والباحثين في مجال علوم الإنسان
قد يؤكد علماء الاجتماع وعلوم الإنسان على طلبات البيئة التي تحددها الثقافة، فعلى سبيل المثال فإن الرغبة في استهلاك اللحم و الأغذية الزراعية يشجع في بعض الأحيان القضاء على الغابات وتدهور التربة، بينما الرغبة في استهلاك السمك فقد تضغط على البيئة البحرية، ويتم التركيز على استدامة النظم الثقافية والبشرية بما فيها قبول نظريات البيئة، حيث نجدهم يسألون "هل المؤسسات المستخدمة لإدارة البيئة تخضع للرقابة المحلية وهل تمكنت من مواجهة الاحتياجات المحلية؟" وهذه مسألة إضافية يطرحها علماء الاجتماع .
وقد يذهب بعض النقاد إلى أبعد من كل التعريفات الواردة أعلاه حيث يقولون أن ما يقترحون استدامته فعلا هو التقسيم الدولي للثروة القوة مما يفرض طلبات بيئية مختلفة و غير متساوية على الدول الغنية والفقيرة. وإذا ما فرض المستقبل المزيد من الطلبات من خلال التوزيع العالمي الحالي للموارد وأنماط الاستهلاك السائدة فمن غير المحتمل أن تكون تلك الموارد مستدامة، كما أن العوامل الاقتصادية والسياسية السائدة التي تشجع على التدهور البيئي بحاجة لمعالجة، وكذا يجب أن يكون هناك إعادة توزيع للثروة في العالم، وعندئذ فقط يمكن أن تصبح التنمية المستدامة إمكانية واقعية على المستوى العالمي .
مما سبق نلاحظ أنه ظهرت عدة تعريفات واستخدامات للتنمية المستدامة، فالبعض يتعامل مع التنمية المستدامة كرؤية أخلاقية تناسب اهتمامات وأولويات النظام العالمي الجديد، والبعض يرى أن التنمية المستدامة نموذج تنموي وبديل عن النموذج الصناعي الرأسمالي، أو ربما أسلوباً لإصلاح أخطاء وتعثرات هذا النموذج في علاقته بالبيئة، أنها التنمية المتجددة والقابلة للاستمرار والتنمية التي لا تتعارض مع البيئة. ولكن هناك من يتعامل مع التنمية المستدامة كقضية إدارية وفنية بحتة للتدليل على حاجة المجتمعات الإنسانية المتقدمة والنامية إلى إدارة بيئية واعية وتخطيط جديد لاستغلال الموارد، وسنتناول التعاريف التي تتسم بالمرجعية والتي من أهمها:
مفهوم Gro Harlem Brundtland المقدم للجنة الأمم المتحدة للبيئـة والتنمية في عام 1987 تعتبر كأول من استخدم مصطلح التنمية المستدامة بشكل رسمي، والتي عرفتها على أنها "التنمية التي تلبي احتياجـات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها". حيث أن هذا التعريف لزم مفهومان: مفهوم الحاجة وخاصة الاحتياجات الأساسيـة للفقراء ، الذين ينبغي أن تعطى لهم الأولوية القصوى ، وفكرة القيود التي تفرضها الدولة من التقنيات والتنظيم الاجتماعـي الذي فرض على قدرة البيئة لتلبية الاحتياجـات الحالية والمستقبلية.
ولقد عرفت التنمية المستدامة من طرف الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعـة سنة 1980 بأنها "التنميـة التي تأخذ في الاعتبار البيئة والاقتصاد والمجتمع ".
أما البنك الدولي فيعتبر نمط الاستدامة هو رأس المال، وعرف التنمية المستدامة بأنها " تلك التي تهتم بتحقيق التكافؤ المتصل الذي يضمن إتاحة نفس الفرص التنموية الحالية للأجيال القادمة وذلك بضمان ثبات رأس المال الشامل أو استمرارية زيادته عبر الزمن ".
كما عرف المبدأ الثالث الذي تقرر في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية الذي انعقد في ريو (Rio) سنة 1992التنمية المستدامة بأنها " ضرورة انجاز الحق في التنمية" ، حيث يتم تحقيق تساوي بين الحاجات التنموية والبيئية لأجيال الحاضر والمستقبل.
حسب تقرير الإتحاد العالمي للمحافظة على الموارد الطبيعية الصادر سنة 1981 تحت عنوان (الإستراتيجية الدولية للمحافظة على البيئة) فإن التنمية المستدامة هي السعي الدائم لتطوير نوعية الحياة الإنسانية مع الأخذ بالاعتبار قدرات النظام البيئي الذي يحتضن الحياة وإمكاناته. حيث انه من البداية عرفت حركة التنمية المستدامة تيارين أو حركتين عرفتا باسم حركة الاستدامة الضعيفة وحركة الاستدامة القوية، سنفصل في مضمون ومبدأ كل حركة في العنصر التالي.
I-1-1-2 حركات التنمية المستدامة
لقد كانت حركة الاستدامة البيئية منذ بدايتها منقسمة على نفسها كمعظم الحركات الاجتماعية الأخرى إلى جناح معتدل عرف أحيانا "بحركة الاستدامة الضعيفة weak sustainability" وآخر ثوري عرف أيضا "بحركة الاستدامة القوية strong sustainability"، ومع أن أجندة التنمية المستدامة في الوقت الحاضر تعكس انتصار الجناح البيئي المعتدل أو الإصلاحي حيث أصبح الوجه الأكثر قبولا من الفكر البيئي لدى الساسة والحكومات في الدول الصناعية المتقدمة ، إلا أن الجناح الثوري من الحركة البيئية قد ناضل بدرجة أكبر من أجل الاهتمام بجوانب العدالة والديمقراطية للخطر البيئي مؤكدا على أن العالم المستدام يجب أن يكون عالم أكثر تساويا.
أ- الاستدامة القوية :
ينظر أنصار الاستدامة القوية(المتمركزة حول البيئة) للأرض كمورد ناضب غير متجدد ومن ثم يزعمون أنه ليس هناك مستقبل بيئي ممكن إلا إذا تم تعديل جذري على جانب الطلب من المعادلة من خلال إعادة التفكير في موقفنا تجاه الطبيعة فضلا عن فكرتنا عن التقدم الاقتصادي والتنمية.
ولذلك تؤكد وجهة النظر هذه المعروفة أيضا بالمذهب الإيكولوجي (الذي يهتم بدراسة العلاقة بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها) "المتمركزة حول البيئة" بأنه لابد من حدوث ثورة في النموذج الإرشادي المهيمن إذا ما أريد إنقاذ كوكب الأرض من الفساد البيئي، وتبعا لذلك فإن هذه النظرة ترى أنه لابد أن نعمل على تكييف أنفسنا للحفاظ على الطبيعة المهددة بالفناء بدلا من تكييف الأرض لتناسب احتياجاتنا، وقد تسبب إصرار أنصار هذا الاتجاه على إحداث تغير بنائي وثقافي في إثارة مخاوف كل من قطاع الأعمال والساسة وأولئك الناس الذين كانوا يرغبون في حلول جزئية للمشاكل البيئية، وقد مثل هذا التوجه حركة الرفض ضد سياسات وممارسات الشركات والحكومات المتعلقة بالبيئة في الدول المتقدمة.
ونتيجة لذلك يركز أنصار الجانب الأقوى للاستدامة على تغيير المطالب تجاه الأرض ويتبنون فهما مختلفا للتنمية المستدامة، حيث يعمدون إلى التأكيد على الاستدامة الإحيائية (البيولوجية) كشرط أولي لأي تنمية، بدلا من التركيز على التأثير الإنساني على استراتيجيات التنمية، ومن ثم ينظر للتنمية المستدامة كوسيلة لتحسين نوعية الحياة الإنسانية مع العيش ضمن حدود القدرة الاحتمالية للأنساق الحيوية للأرض.
ويندرج تحت حركة الاستدامة القوية هذه عدة فروع للفلسفة البيئية ومنها الفلسفة الإيكولوجية العميقة deep ecologyالمتمركزة حول المجال الحيوي(biocentrism) ، والفلسفة الإيكولوجية النسوية (ecofeminism) التي تعبر عن تنمية مستدامة (متمركزة حول المرأة) .
وباختصار، تكون الاستدامة قوية إذا وقع حقل النشاطات الاقتصادية ضمن مجال النشاطات الإنسانية وهذه الأخيرة تكون ضمن الدائرة البيولوجية، وعليه فالنشاطات الاقتصادية تنمو بشكل متضائل على المدى الطويل إذا تم الإضرار بالطبيعة بأضرار جسيمة، كما يوضحه الشكل التالي:
الشكل رقم(I-1) : الاستدامة القوية (الغطاء البيئي)
المصدر :عبد الله الحرتسي حميد، السياسة البيئية ودورها في تحقيق التنمية المستدامة، ص 27
يوضح الشكل أن إمكانيـة التوسع نحو الخارج في التنمية الاقتصاديـة والاجتماعيـة يجب أن يتم في إطار الحدود البيئية، لهذا فالاستدامـة القويـة ترفض فكرة إحلال بين مختلف أشكال رأس المال البشري، المالي، التكنولوجي ... وتدعم ضرورة بقاء على الأقل جزء من مخزون رأس المال الطبيعي ثابتا.
ب- الاستدامة الضعيفة :
تزعم حركة الاستدامة الضعيفة التي عرفت أيضا "بالبيئية الضحلة" “shallow environmentalism” بأن هناك حاجة لتوسيع نطاق المخزون من الموارد وأن هذا يمكن تحقيقه من خلال تطوير موارد متجددة، وإيجاد بدائل للموارد غير المتجددة، والاستخدام الأمثل للموارد الحالية أو البحث عن حلول تكنولوجية لمشاكل من قبيل نفاد الموارد والتلوث. وفي القلب من هذا الخطاب يكمن تفاؤلا ضمنيا يتمثل في الثقة بأن البشر سيجدون حلا لكل مشكلة بيئية تبرز على السطح، كما سيكونون قادرين على تعزيز مخزون الموارد وذلك لأن التقدم التقني كما يفترض سيمكن البشر من التحكم في الأرض لتلبية مطالبهم المتنامية، ومن ثم فإن أي مشكلة تظهر ستحل من خلال التطور التقني، ويجادل أنصار هذا الموقف بأن أسباب الأزمة البيئية التي يعيشها كوكب الأرض لا تكمن في قيم نموذج الحداثة المهيمن و المتمركز حول البشر ولا في معاييره أو مؤسساته وممارساته، بل أن تلوث الماء والهواء ونفاد الموارد الطبيعية وتناقص التنوع البيئي والفقر وحالات عدم المساواة هي نتيجة للجهل والجشع والممارسات الحمقاء في التعامل مع البيئة ومن ثم يمكن كبح مثل هذه الممارسات الحمقاء الملامة خلقيا عبر سن تشريعات وتغيير السياسة العامة، وزيادة التعليم، وتغيير القوانين الضريبية، وإعادة الأراضي العامة إلى مالكيها ......، والتأكيد على الإلزامات الخلقية نحو الأجيال المستقبلية، وتشجيع الإدارة الحكيمة للطبيعة وتشجيع آخر لاستخدام رشيد للموارد الطبيعية.
الشكل رقم(I-2): الاستدامة الضعيفة (الغطاء الاقتصادي)
المصدر: عبد الله الحرتسي حميد، السياسة البيئية ودورها في تحقيق التنمية المستدامة، ص 28
يوضح الشكل كيف يمكن التوسع على حساب رصيد الموارد البيئية شريطة بقاء رصيد رأس المال الشامل ثابتا من خلال اتجاه عمليات التنمية نحو الداخل.
ولا شك في أنه ينظر لمفهوم التنمية المستدامـة على أنه براءة اختراع من قلب الظلام لنادي روما، بالنسبة للبعض، فإن النظام الليبرالي المتأصل قد أثبت قدرته على التحرك في اتجاه يحترم القيود البيئية. وهكذا وكنتيجة للتقدم التقني والتغييرات الهيكلية، فقد ارتفعت قيمة الناتج المحلي الإجمالي للطاقة والمواد لبلدان منظمة التعاون والتنمية وقد تحسنت بشكل كبير، ولذلك فليس هناك أي لبس في وجود علاقة بين النمو والتلوث، إذ المهم والضروري لتشكيل البنية التحتية للاقتصاد يتبعه كنتيجة منطقية استخدام الطاقة والموارد المعدنية، ولكن في وقت لاحق من مراحل التنمية ستكون هناك كفاءة أكبر للتسيير الأمثل والمستدام للمواد الخام.
وترتكز فلسفة التنمية المستدامة على أن الاهتمام بالبيئة وما تحتويه من موارد طبيعية هو أساس التنمية الاقتصادية والصحية والثقافية وغيرها، وهذا يتطلب إعداد خطط تنموية تهتم بالمشروعات الحالية وتهتم بآثارها البعيدة على البيئة وعلى الناس في المستقبل، وبذلك تستمر التنمية. وتلك الخطط لا تشمل فقط دور الدول والمؤسسات في المشروعات التي تقيمها وإنما تشتمل أيضاً على دور الفرد في المجتمع، لأن الفرد أساس المجتمع.
I-1-1-3 تطور مفهوم التنمية المستدامة
لقد تطور مفهوم التنمية المستدامة مع نهاية القرن 20م عن طريق انعقاد عدة مؤتمرات وظهور منظمات لأجل الحد من سرعة التلوث واستنزاف الموارد الطبيعيـة الناتجة عن الارتفاع المستمر للنمو الديموغرافي والاقتصادي والأنماط الاستهلاكية للدول المصنعة ، ولقد كان أهمها مايلي:
كأول فكرة لظهور التنمية المستدامة تم إنشاء نادي روما سنة 1968م من قبل علماء ومفكرين من عدة دول، حيث دعا إلى ضرورة إجراء أبحاث تخص مجالات التطور العلمي لتحديد حدود النمو في الدول المتقدم.
وبعدها خلال سنة 1970م ظهرت عدة تساؤلات أولية حول استدامة النمو بالمقارنة مع الكميات المتاحة للموارد الطبيعية.
في سنة 1972م ينشر نادي روما تقريرا مفصلا حول تطور المجتمع البشري وعلاقة ذلك باستغلال الموارد الاقتصادية تحت عنوان توقيف النمو (النمو صفر)، حيث سجلت تدهور حالة النظام البيئي، ومن أهم نتائجه أنه سيحدث خللا في القرن21م بسبب التلوث وتعرية التربة، وأن استمرار التنمية الاقتصادية على المدى الطويل لا تتفق مع حماية كوكب الأرض .
وفي 27 أفريل 1987 قدمت اللجنـة الدوليـة للبيئـة و التنميـة التابعـة للأمم المتحدة تقريرا من قبل لجنة برونتلاند (Brundtland) بعنوان " مستقبلنا المشترك "، بحيث استخدم مصطلح التنميـة المستدامة ، وقد عرفتها بأنها "التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها"، ويقدم التقرير حماية البيئة على أنها من الأولويات على الصعيد الدولي.
هذا التاريخ يمثل بداية لهذا المفهوم في المجال السياسي وعلى غرار الكوارث الطبيعيـة التي حدثت في العالم مثل حادثـة تشرنوبيل، انعقد في جوان 1992 مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية المستدامة في ريو(Rio)، والذي سمي بمؤتمر قمة الأرض. في حضور الآلاف من الجمعيات، 173 دولة وقعت على برنامج عمل للقرن الحادي والعشرين(21)، ويحدد التقرير ثلاثة أهداف رئيسية لهذا المفهوم وهي:
1- الكفاءة الاقتصادية
2- حماية البيئة
3- العدالة الاجتماعية
حيث خلصوا إلى أن مستقبل كوكبنا يقوم على التضامن المزدوج الذي لا بد لنا من البدء فيه من خلال :
1- التضامن في الوقت المناسب ، أي بين الأجيال مع احترام حقوق الملكية الفكرية.
2- التضامن بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، وذلك بوضع آلية تمويل للأنشطة التنفيذية للمبادئ المعلنة في الدول النامية التي تفتقر إلى موارد مالية إضافية لدمج البعد البيئي في سياساتها الإنمائية.
وفي ديسمبر 1997 انعقد مؤتمر كيوتوKyoto الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى الحد من انبعاث الغازات الدافئة، ويعتبر كخطوة مهمة لمحاربة ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث أن 38 دولة صناعية أمضت على المعاهدة وبدأت العمل بالمعايير اللازمة للحد من الحجم الكلي لغازاتها المنبعثة في الجو، وتتحدد أهداف البروتوكول المرتبطة بالتنمية المستدامة في تحسين كفاءة استخدام الطاقة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وزيادة استخدام نظم الطاقة الجديدة والمتجددة والبديلة، بالإضافة إلى زيادة المصبات المتاحة لامتصاص الغازات الدافئة.
في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا سنة 2002 انعقد مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة، حضر المؤتمر أكثر من 100رئيس دولة وعشرات الآلاف من المتخصصين في مجالات البيئة و التنمية، يهدف المؤتمر إلى تأكيد الالتزام الدولي بتحقيق التنمية المستدامة باتخاذ قرارات مهمة حول الصحة، الزراعة، المياه،الطاقة والتنوع البيولوجي، وذلك من خلال:
1- تقويم التقدم المحرز في تنفيذ جدول أعمال القرن 21 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والبيئة (Rio) عام 1992.
2- توضيح واستعراض التحديات والفرص التي يمكن أن تؤثر في إمكانات تحقيق التنمية المستدامة؛
3- إعطاء واقتراح الإجراءات المطلوب اتخاذها والترتيبات المؤسسية والمالية اللازمة لتنفيذها؛
4- تبيان وتحديد سبل دعم البناء المؤسسي اللازم على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.
ولقياس مدى تطور الاهتمام الدولي بتطبيق الأجندة 21 على المستوى المحلي ربما يكفي أن نشير أنه في عام 1997 تم وضع 1812 خطة محلية في 64 دولة، في حين أنه ببداية عام 2002 كانت 6416 حكومة محلية في 113 دولة قد دخلت ضمن فعاليات الأجندة 21 وكان 44 % من البلديات في هذه الحكومات قد بدأت بتطبيق برامج الأجندة 21.
وبناء على ذلك، تقع على عاتقنا مسؤولية جماعية بتعزيز وتقوية أركان التنمية المستدامة المترابطة والمتداعمة وهي التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة، على الصعيد المحلي والوطني والإقليمي والعالمي.
ونخلص مما سبق أن مفهوم التنمية المستدامة يشير إلى قيمة أخلاقية في غاية الأهمية، وهذه القيمة هي المساواة بين الأجيال التي أصبحت أحد أهداف الإدارة البيئية، كما ننبه كل دولة إلى أهمية استثمار مواردها.
I-1-2 المقومات الأساسية للتنمية المستدامة
لابد من توفر عدد من المقومات لإرساء مفهوم التنمية المستدامة والتي تشكل مرتكزاتها وأهمها:
I-1-2-1 المقومات البشرية
فالإنسان هو المسئول الأول وحامل الأمانة، حيث توضح أجندة القرن الحادي والعشرين أنه نتيجة للنمو السريع في عدد سكان العالم فإن أنماط استهلاكهم تتزايد للأرض والماء والطاقة والموارد الطبيعية الأخرى، لقد كان عدد سكان العالم أقل من 5,5 بليون عام 1993م ومن المتوقع أن يصل إلى 8 بليون عام 2025 وينبغي على استراتيجيات التنمية أن تتعامل مع النمو السكاني، وصحة النظام البيئي، ووسائل التكنولوجيا واستخداماتها المتقدمة، كما ينبغي أن تتضمن الأهداف الأولية للتنمية محاربة الفقر، وتأمين الحياة البشرية، والسعي لنوعية حياة جديدة متضمنة تحسين أوضاع المرأة، وتأمين الحاجات الأساسية مثل الغذاء والمأوى، والخدمات الأساسية مثل التعليم وصحة الأسرة، وإعادة تشجير الغابات، وتوفير فرص العمل، والرعاية البيئية.
كما ينبغي أن تكون اهتمامات السكان جزءاً من استراتيجيات التنمية المستدامة، ويجب على الدول أن تحدد لها أهدافاً وبرامج سكانية، واضعة في الاعتبار أن التكوين الهرمي للسكان والذي تزداد فيه نسبة صغار السن، سوف يخلق في المستقبل القريب مطالب وضغوطاً على الموارد. وتطالب أجندة القرن الحادي والعشرين من الدول أن يتعرفوا على القدرات الاحتمالية لمواردهم، مع إعطاء اهتمام خاص للموارد الحرجة مثل المياه والأرض، والعوامل البيئية الأخرى، كصحة النظام البيئي، والتنوع الإحيائي (والقدرة الاحتمالية تعني مقدرة الموارد على إعالة وتقديم احتياجات البشر بدون إهدارها أو استنزافها )، كما تنبه أجندة القرن الحادي والعشرين إلى أن العالم يحتاج إلى دراسات جادة للتنبؤ بالنتائج المحتملة للأنشطة البشرية، متضمنة اتجاهات السكان، ونصيب كل فرد منهم من الناتج الإجمالي للدخل، وتوزيع الثروة، والهجرات المنتظرة نتيجة للتغيير المناخي.
حيث في عام 2001 حسب إحصائيـات صندوق الأمم المتحدة للسكان، بلغ عدد سكان دول العالم الإسلامـي الأعضاء في منظمـة المؤتمر الإسلامي نحو مليار و144 مليون نسمة، وهم يشكلون نحو %18 من جملـة عدد سكان للعالم في نفس السنة، وما يوازي عدد سكان المناطق الأكثر نمواً في العالم ( الدول المتقدمة) والتي يبلغ عدد سكانها نحو مليار و193 مليون نسمة، بينما يشكلون نحو %23,3 من سكان المناطق الأقل نمواً، والتي يشكل سكانها نحو أربعـة مليارات و 940 مليون نسمة ونتيجة لارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية لمعظم الدول الأعضاء في منظمـة المؤتمر الإسلامي والتي تبلغ ما بين 2,5 و%3 سنوياً (40 دولة من 48 دولـة) وأيضاً ارتفاع نسبة صغار السن أقل من 15 سنـة، وسيادة النمط الزراعي في معظم اقتصاديات هذه الدول، فإن الإسقاطات السكانية لها مرتفعـة، ويتوقع أن يصل عدد سكان هذه الدول عام 2025 مليار و699 مليون نسمة، وفي 2050 مليارين و227 مليون نسمة.
ويقدر الخبراء أنه من الخطأ اعتبار الزيادة السريعة في عدد السكان نعمة مطلقة، أو نقمة مطلقة، فبالتحليل الموضوعي نجد أن تأثير الزيادة يختلف من بلد لآخر حسب الظروف المحلية، واحتياجاته، وموارده وتطلعاته، فهناك دول تحتاج إلى الزيادة السكانية، وعندها من الموارد الكافية لاستيعابها، وهناك بلاد قد تؤدي الزيادة السكانية فيها إلى آثار سلبية، لقلة الموارد، والمهم أن يكون للدولة سياسة سكانية مدروسة ولا يترك النمو السكاني فيها بدون تخطيط.
I-1-2-2 المقومات الطبيعة
ونقصد بها المحيط الحيوي، وهو خزانة طبيعية مكونة من موارد متجددة وموارد غير متجددة، حيث أن: الموارد المتجددة وتتمثل في الغابات، مصائد الأسماك، المراعي والمزارع...الخ، ويعد الإنسان عنصراً رئيساً من عناصر استهلاك تلك الموارد، وإنتاج الموارد السابقة هو إنتاج متجدد ما استمرت صحة النظام البيئي.
الموارد غير المتجددة وهي مواد مختزنة في باطن الأرض تكونت وتجمعت في عصور سابقة وسحيقة، ما يؤخذ منها لا يعوض ولا يتجدد، وتضم هذه المجموعة خامات البترول، الفحم، الغاز الطبيعي، رواسب المعادن وتكوينات المحاجر غالبية المياه الجوفية.
إن ترشيد وتنمية الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة نقيض استنزافها، أي تجاوز قدرة النظم البيئية على العطاء، وهذا الترشيد هو الإدارة البيئية السليمة، ونعني بها تلك الإدارة التي تساهم في تحقيق التنمية المستدامة بالاستخدام الفعال لكل الأدوات الممكنة من تشريعات وقوانين البيئية، تقييم الأثر البيئي، قاعدة المعلومات البيئية وغيرها، لضمان استمرارية تلبية الحاجات عن طريق الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة، بطريقة سليمة ودون إهدار وفي إطار القيود البيئية، لأن عهد الثورة الصناعية قد مضى وحالياً في عهد الثورة العلمية الثالثة حيث أصبحت مقومات الاقتصاد هي الفكر والعلم والابتكار ." فقد أصبحنا نتكلم الآن عن زراعة بلا زراع وبلا مزارع"، وعلى سبيل المثال ففي مادة الثوماتين Thaumatin وهي موجودة في فاكهة إحدى النباتات الأفريقية والتي تعادل حلاوتها حلاوة السكر مائة ألف مرة، إستطاع العلماء عن طريق تكنولوجيا جديدة هي فصل أو تقطيع الجينات Gene Splicing Techniques أن يفصلوا الجين الخاص بهذه المادة، وأن ينتجوه معملياً بكميات تجارية في معامل بكتيرية، وتستطيع أن تتصور حجم هذه الزراعة العلمية المعملية على إنتاج قصب السكر والبنجر في مختلف أنحاء العالم، وأثر ذلك على العمالة الموجودة حالياً في المزارع، وأثر ذلك على الأرض التي كانت تستغل في هذا الشأن.
I-1-2-3 المقومات التكنولوجية
تتعارض التنمية المستدامة مع التكنولوجيا المضرة بالبيئة، وعليه لتحقيق التنمية المستدامة لا بد من إعادة توجيه التكنولوجيا المستخدمة مما يجعلها أكثر ملائمة للبيئة وذات استخدام أقل للموارد والطاقة وتوليد قدرا أقل من التلوث والنفايات.
ولأن التطور التكنولوجي أصبح مترسباً في نسيج المجتمعات وفي حياة الناس اليومية، فقد تعين على الدول النامية أن تستورد تكنولوجيا نظيفة ملائمة لبيئتها المحلية، وأن تعمل باستمرار على تطوير قدراتها الذاتية، فيما يتعلق بالتعامل مع التكنولوجيا مما يجعلها تكسب قدرات ومهارات تقنية تؤمن لها في نهاية المطاف القدرة على تطوير وإنتاج تكنولوجيا محلية نظيفة. حيث سادت في الزمن الحديث فكرة الحلول التكنولوجية لسائر المشكلات الصناعية والبيئية والاجتماعية، ولكن التجربة أظهرت أن المشاكل البيئية ناتجة عن التفاعلات بين الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا، وأن الحلول المؤقتة قد تكون عبر الوسائل التكنولوجية، والحل الشامل لهذا الخلل يعتمد على إصلاح التفاعل وإيجاد طرائق تتصل بالعناصر الثلاثة لتحقيق الاتزان في تفاعلاتها، والسبيل إلى ذلك حزمة متكاملة تجمع بين الوسائل التقنية والوسائل الاقتصادية والوسائل الاجتماعية، بما في ذلك التشريعات والإجراءات الإدارية، كما أن استخدام بعض هذه الحزمة دون جملة العناصر يعد قصوراً لا يؤدي إلى الطريق الناجح .
ولهذا فقد ظهر ما يعرف بالاقتصاد البيئي وهو فرع من فروع العلوم الاقتصادية يعالج العلاقة بين المجتمعات البشرية والبيئة في إطار السياسات الاقتصادية البيئية، ويهدف إلى إدماج البيئة في الإطار الخاص بالعلوم الاقتصادية، وهذا ما تجاهله الاقتصاديون الكلاسيك، الذين كانوا يرون الاقتصاد على أنه العلم الذي يسعى لتعظيم الأرباح وتخفيض البطالة.
حيث يعنى الاقتصاد البيئي بشكل رئيسي بإخفاقات السوق وكيفية تأثير تلك الإخفاقات على توزيع الموارد الطبيعية (أو سوء توزيعها). ويركز الاقتصاد البيئي على تصنيف وتقييم تغيرات نوعية البيئة واستخدام السياسات البيئية لتوزيع تلك الموارد بشكل كفء. حيث توجد هناك مستويين للدراسة في اقتصاد البيئة، مستوى كلي(على مستوى الاقتصاد ككل)،و مستوى جزئي (على مستوى المؤسسة)؛
اقتصاد البيئة الجزئي: يمثل جزءا من اقتصاد المؤسسة الذي يهتم ويحلل علاقة المؤسسة بالبيئة الطبيعية والتطور النوعي للبيئة المحيطة وأثر السياسات البيئية على المؤسسة، ولاقتصاد البيئة على مستوى المؤسسة المهام التالية :
1- دراسة وتحليل إجراءات حماية البيئة للمؤسسة، أهدافها وعلى تعظيم الربح فيها؛
2- تقديم المشورات والنصائح للمؤسسة المناسبة مع متطلبات حماية البيئة؛
3- المساهمة في توجيه الإنتاج بما تقتضيه التوجيهات واللوائح البيئية؛
4- دراسة الاستثمارات البيئية التي تحد من الأخطار البيئية؛
5- إعطاء المعلومات حول تكاليف حمايـة البيئـة ونفقات الاستثمار وتأثير حماية البيئة على حسابات الأرباح والخسائر وتحليل الجدوى البيئية للمشاريع؛
6- إعطاء النصائح وتحليل المشاكل ودراسة آفاق المستقبل لبعض فروع الاقتصاد الوطني في ضوء التطورات البيئية كمؤسسات الخدمات ،النقل ،حماية البيئة ،التجارة والتأمين.
اقتصاد البيئة الكلي: يتناول مشاكل البيئة على مستوى الاقتصاد ككل، ومن أهدافه الوصول إلى مستويات أعلى من الرفاهية الاجتماعية المستديمة والتي تأخذ في الاعتبار، المحافظة على نوعية البيئة عند مستويات عليا وهو يعالج الموضوعات التالية:
1- التقويم المادي والنقدي للأضرار البيئية وكذلك تقويم التحسين البيئي الناجم عن السياسة البيئية في النشاطات الحكومية والخاصة؛
2- تحديد ودراسة الصلات القائمة بين البيئة والأهداف الاقتصادية الكلية وكذلك الصلات القائمة بين السياسات الاقتصادية والسياسات البيئية؛
كما أن لاقتصاد البيئة مجموعة من الوظائف يجب أن يقوم بها أهمها :
1- يعتبـر جزء من الاقتصاد الكلي، أي ليس فقط تخصيص التكاليف على مستوى المؤسسـة وإنما التكلفة على مستوى المجتمع وعلى الاقتصاد ككل.
2- تقديم المعلومات والاستشارات التي يمكن على أساسها اتخاذ القرارات وذلك من خلال:
• تقويم الأضرار البيئية وإجراءات حماية البيئة ونتائج تلك الإجراءات؛
• تقويم تطور أدوات السياسة البيئية سواء المحلية منها أو العالمية وتحديد إلى أي مدى تم حل المشاكل الموجودة؛
• تقويم تأثير حماية البيئة على الأهداف الاقتصادية الكلية وتحديدًا على العمالة والنمو الاقتصادي؛
• تقويم العلاقات بين السياسات البيئية والاقتصادية ذات الصلة فالسياسة البيئية تؤثر في السياسات الأخرى؛ كالسياسات الإقليمية وسياسة النقل والمواصلات وسياسة الطاقة والموارد.
كما أن التنمية المستدامة، هي تنمية في إطار الاعتماد على الذات، داخل الحدود الوطنية وفي حدود القيود التي تفرضها الموارد الطبيعية، أي لابد لكل دولة أن تتعايش مع بيئتها، وفقا للأسس المحلية، وبما يتيح الموائمة بين حاجاتها ورغباتها، والإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية. ولأن النظم الطبيعية ومشاكل البيئة لا تعترفان بالحدود الإقليمية، فإن التعاون الدولي أمرا ضروريا لدفع التنمية المستدامة نحو الأمام.
I-1-3 أبعاد التنمية المستدامة
يمثل مفهوم التنمية المستدامة أبعادا متعددة ومرتبطة فيما بينها، والتركيز عليها من شأنه أن يحرز تقدم في تحقيق التنمية المستدامة، ويمكن الإشارة إلى ثلاث أبعاد متفاعلة وهي كالآتي:
I-1-3-1 الأبعاد الاقتصادية
بالنسبة للدول الصناعية في الشمال، فإن التنمية المستدامة تعني إجراء خفض عميق ومتواصل في استهلاك هذه الدول من الطاقة والموارد الطبيعية وإحداث تحولات جذرية في الأنماط الحياتية السائدة، وأما بالنسبة للدول الفقيرة، فالتنمية المستدامة تعني توظيف الموارد من أجل رفع المستوى المعيشي للسكان الأكثر فقراً في الجنوب.ويمكن حصرها فيما يلي :
أ- حصة الاستهلاك الفردي من الموارد الطبيعية : تشير الإحصائيات أن استغلال الدول الصناعية للموارد الطبيعية يمثل أضعاف ما تستخدمه الدول النامية على مستوى نصيب الفرد، فالولايات المتحدة الأمريكية تستهلك من الطاقة الناجمة عن النفط والغاز والفحم أكثر من الهند ب 33 مرة، وكما هو الحال في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) أعلى بعشر مرات في المتوسط للدول النامية.
فالتنمية المستدامة في الدول الغنية تتلخص في إجراء تخفيضات متواصلة من مستويات الاستهلاك المبددة للطاقة والموارد الطبيعية وذلك عبر تحسين مستوى الكفاءة، شريطة التأكد من عدم تصدير الضغوط البيئية إلى الدول النامية، كما تعني التنمية المستدامة تغيير أنماط الاستهلاك التي تهدد التنوع البيولوجي والمنتجات الحيوانية بالانقراض.
ب- مسؤولية البلدان المتقدمة عن التلوث ومعالجته وتبديد الموارد الطبيعية: أدى الاستهلاك المتراكم من الموارد الطبيعية مثل المحروقات للدول الصناعية في الماضي إلى إسهامها في مشكلات التلوث العالمي، لذا تقع عليها المسؤولية الكاملة في معالجته ما دامت تكسب الموارد المالية والتقنية والبشرية الكفيلة باستخدام تكنولوجيا أنظف واستخدام الموارد بكثافة أقل، وذلك عن طريق إتباع سياسات وإجراءات لتخفيض مستويات الاستهلاك المبددة للطاقة والموارد الطبيعية.
ج- تقليص تبعية البلدان النامية : ثمة جانب يربط بين الدول الغنية والفقيرة، له تأثير على تحقيق التنمية المستدامة ذلك أنه بالقدر الذي ينخفض فيه استهلاك الموارد الطبيعية في الدول الصناعية يتباطأ نمو صادرات هذه المنتجات في الدول النامية وتنخفض أسعارها، مما يحرم الدول النامية من إيرادات تحتاج إليها لتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، لأجل ذلك لا بد على الدول النامية الاعتماد على نمط تنموي يقوم على الاعتماد على الذات لتنمية القدرات الذاتية وتأمين الاكتفاء الذاتي.
فالتنمية المستدامة في الدول الفقيرة تعني استغلال الموارد الطبيعية لأغراض التحسين المستمر لمستويات المعيشة وتخفيف عبء الفقر، لأن هناك روابط وثيقة بين الفقر وتدهور البيئة والنمو السريع للسكان والتخلف الناجم عن التاريخ الاستعماري والتبعية المطلقة للقوى الرأسمالية.
د- المساواة في توزيع الموارد والمداخيل :تعتبر الوسيلة الناجعة للتخفيف من عبء الفقر وتحسين مستويات المعيشة، وهي مسؤولية كل من الدول الغنية والفقيرة، وتعتبر هذه الوسيلة غاية في حد ذاتها وتتمثل في جعل فرص الحصول على الموارد والمنتجات والخدمات، وكذا مستويات الدخل فيما بين جميع الأفراد داخل المجتمع أقرب إلى المساواة، ما يسمح بفرص أحسن للتعليم والرعاية الصحية الجيدة.
هـ- تقليص الإنفاق العسكري :كما تعني التنمية المستدامة أيضا تحويل الأموال من الإنفاق للأغراض العسكرية وأمن الدولة إلى الإنفاق على احتياجات التنمية، ومن شأن إعادة تخصيص ولو جزء بسيط من المواد المكرسة الآن للأغراض العسكرية الإسراع بالتنمية بشكل ملحوظ.
I-1-3-2 الأبعاد الاجتماعية
فإن التنمية المستدامة تسعى إلى تحقيق الاستقرار في النمو السكاني، ووقف تدفق الأفراد إلى المدن، وذلك من خلال تطوير مستوى الخدمات الصحية والتعليمية في الأرياف، تحقيق أكبر قدر من المشاركة الشعبية في التخطيط للتنمية، وتحسين قدرة الحكومات على توفير الخدمات المختلفة للسكان وكذلك من خلال النقاط التالية:
أ- تثبيت النمو الديموغرافي :حيث أن هذا الأمر أصبح يكتسي أهمية بالغة، ليس لأنه يستحيل نمو السكان لفترة طويلة بنفس المعدلات الحالية فقط، بل كذلك النمو السريع يحدث ضغوطا حادة على الموارد الطبيعية وعلى قدرة الحكومات على توفير الخدمات.
ب- مكانة الحجم النهائي للسكان وأهمية توزيعه: توحي الإسقاطات الحالية في ضوء الاتجاهات الحاضرة للخصوبة بأن عدد سكان العالم سيستقر عند حوالي 11.6 مليار نسمة، وهو أكثر من ضعف عدد السكان الحاليين، وبالتالي وجب النظر في الحجم النهائي الذي يصل إليه السكان ذلك أن حدود قدرة الأرض على إعالة الحياة البشرية غير معروفة بدقة،كما أنها تهتم بضرورة النهوض بالتنمية الريفية لتقليل الهجرة إلى المدن، إذ تقوم المدن بتركيز النفايات والمواد الملوثة فتسبب في كثير من الأحيان أوضاع لها خطورة على المجتمع وتدمر النظم الطبيعية المحيطة بها.
ج- الاستخدام الكامل للموارد البشرية :تعني التنمية المستدامة إعادة تخصيص الموارد بما يضمن الوفاء بالاحتياجات البشرية الأساسية، بمعنى تحسين الرفاهية الاجتماعية وحماية التنوع الثقافي، والاستثمار في رأس المال البشري بتدريب المربين والعاملين في الرعاية الصحية وغيرهم من المتخصصين الذين تدعو إليهم الحاجة لاستمرار التنمية.
د- الأسلوب الديمقراطي والمشاركة في الحكم :على المستوى السياسي يشكل اعتماد النمط الديمقراطي وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار والحكم بما يعزز ثقة الأفراد بأهمية دورهم، القاعدة الأساسية في تحقيق التنمية المستدامة في المستقبل.
هـ- الصحة، التعليم وأهمية دور المرأة: أن القوة العاملة التي تحوي أشخاص يتمتعون بصحة جيدة وتعليم حسن لأمر ضروري للوصول إلى تنمية اقتصادية قوية بوتيرة سريعة. ومن شأن الاستثمار في صحة المرأة وتعليمها أن يعود على القابلية للاستدامة بمزايا متعددة. فهي من المشاركين في التنمية الاقتصادية عن طريق عملها خارج المنزل أو كونها المسئولة الأولى والمدبرة لشؤون منزلها وتربية أولادها.
I-1-3-3 الأبعاد البيئية
فإن التنمية المستدامة هي الاستخدام الأمثل للأراضي الزراعية، الموارد الطبيعية والموارد المائية في العالم على أساس مستديم والتنبؤ لما قد يحدث للنظم البيئية من جراء التنمية بما يؤدي إلى مضاعفة المساحة الخضراء على سطح الكرة الأرضية، ويمكن إجمال الأبعاد البيئية في ما يلي:
أ- إتلاف التربة، استعمال المبيدات، تدمير الغطاء النباتي والمصائد :من الملاحظ أن تعرية التربة وفقدان إنتاجيتها يؤديان إلى التقليص من غلتها، كما أن الإفراط في استخدام الأسمدة ومبيدات الحشرات يؤدي إلى تلويث المياه السطحية والجوفية، أما الضغوط البشرية والحيوانية فهي في علاقة سلبية مع الغطاء النباتي والغابات، كما أن هناك مصائد كثيرة من الأسماك في المياه العذبة أو البحرية يرى استغلالها فعلا بمستويات غير مستدامة.
ب- صيانة المياه : تعني التنمية المستدامة وضع حد للاستخدامات المبددة وتحسين كفاءة شبكات المياه، كما تعني تحسين نوعية المياه وقصر المسحوبات من المياه السطحية على معدل لا يحدث اضطرابا في النظم الايكولوجية التي تعتمد على هذه المياه، وقصر المسحوبات من المياه الجوفية بما يضمن تجددها.
ج- تقليص ملاجئ الأنواع البيولوجية:معناه أن يتم صيانة ثراء الأرض في التنوع البيولوجي للأجيال المقبلة وذلك بإبطاء عمليات الانقراض وتدمير الملاجئ والنظم الايكولوجية بدرجة كبيرة، وإن أمكن وقفها.
د- حماية المناخ من الاحتباس الحراري :ويعني عدم المخاطرة بإجراء تغييرات كبيرة في البيئة العالمية من شأنها أن تحدث تغيير في الفرص المتاحة للأجيال المقبلة، وذلك بالحيلولة دون زعزعة استقرار المناخ، أو النظم الجغرافية الفيزيائية والبيولوجية أو تدمير طبقة الأوزون الحامية للأرض من جراء النشاط البشري.
مما سبق نستنتج أن التنمية المستدامة لا تركز فقط على الجانب البيئي بل تشمل أيضا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية،ويمكن وصف هذه الأبعاد بأنها مترابطة ومتكاملة في إطار تفاعلي يتسم بالضبط والتنظيم والترشيد للموارد، ويمكن التعامل مع هذه الأبعاد على أنها منظومات فرعية لمنظومة التنمية المستدامة كما هو مبين في الشكل التالي:
الشكل رقم(I-3): يوضح تداخل أبعاد التنمية المستدامة
المصدر:عثمان محمد غنيم. التنمية المستدامة، فلسفتها وأساليب تخطيطها وأدوات قياسها، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص42
يمكن أن نستنتج بأن هناك قواسم مشتركة لهذه الأبعاد لكي تكون التنمية مستدامة نذكرها كما يلي:
1- ألاَّ تتجاهل الضوابط والمحددات البيئية.
2- ألاَّ تؤدي إلى دمار واستنزاف الموارد الطبيعية.
3- أن تؤدي إلى تطوير الموارد البشرية ( المسكن، الصحة، مستوى البيئة، أوضاع المرأة، الديمقراطية وحقوق الإنسان).
4- أن تحدث تحولات في القاعدة الصناعية السائدة.
إن التنمية المستدامة هي المبدأ القائل بأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب أن لا تدمر البيئة، وأن تتم عملية التنمية ضمن حدود وإمكانات العناصر البيئية، وضمن الأطر التي يضعها علم البيئة بمعناه الواسع، وذلك من خلال دراسة وفهم العلاقات المتبادلة بين الإنسان ونشاطاته المختلفة، وبين البيئة التي يعيش فيها وما يحكمها من قوانين فيزيائية وكيميائية، إن هذه الأطر ضرورية ولازمة لضمان توازن هذه العلاقات من خلال تفاعل إنساني عقلاني بين عناصرها لتحقيق نوعية حياة جيدة كما هو موضح في الشكل التالي:
الشكل رقم (I-4): يوضح علاقات التنمية المستديمة وأطرها اللازمة لتحقيق نوعية حياة جيدة
المصدر:عثمان محمد غنيم. التنمية المستدامة، فلسفتها وأساليب تخطيطها وأدوات قياسها، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص97
-2 الآثار الخارجية وتعظيم الرفاهية الاجتماعية
يؤدي سوق المنافسة الكاملة إلى الإفراط في إنتاج بعض السلع، وبالتالي إلى النقص في إنتاج بعض السلع الأخرى، طالما أن كافة المجتمعات تعاني من الندرة النسبية للموارد. ويرجع الإفراط من ناحية وذلك النقص من ناحية أخرى إلى أن الأسعار السوقية النسبية للسلع والخدمات لا تعبر تعبيرا دقيقا عن المزايا والتكاليف من وجهة نظر المجتمع ككل، وذلك نتيجة لما يعرف بالآثار الخارجية للنشاط الاقتصادي.
-2-1 نظرية الآثار الخارجية
يكون هناك أثر خارجي، عندما تتأثر رفاهية وكيل أو فرد (فائدة مستهلك أو ربح مؤسسة) أو حرية اختياره لسلوكه بأعمال فرد آخر لا تربطه أي علاقة سوقية أو معاملات بينهما. بحيث يترتب على العمليات الإنتاجية التي تقوم بها المؤسسات منتجات لا يتم تسويقها كسلعة نهائية، لأن سعرها لا يعكس الآثار الخارجية لها، وتتأثر بهذه المنتجات بعض المؤسسات الأخرى والمجتمع، الذين سيدفعون ثمن هذه الآثار الخارجية بأشكال مختلفة إلى درجة استعدادهم لدفع مبالغ نقدية معينة من أجل التقليل من حدة هذه الآثار وبتتبع مصدر الآثار الخارجية ، فإننا نميز بين آثار خارجية للاستهلاك الناجم عن استهلاك بعض السلع (التدخين، الضجيج، النفايات الملوثة )، والآثار الخارجية للإنتاج ، الناجم عن النشاط الإنتاجي للشركات ( انبعاث الغازات الملوثة مثل الكبريت من جانب بعض الصناعات أو النيرات الزراعة التي تلوث التربة ومجاري المياه).
انطلاقا مما سبق نقول أن الآثار الخارجية هي أن تؤول تكاليف أو منافع النشاط قيد الدراسة إلى أفراد ليس لهم علاقة مباشرة بذلك النشاط، وتكون هناك آثار خارجية إذا توفر الشرطين التاليين:
1- نشاط المؤسسة يجب أن يحدث انخفاض أو تحسين في مستوى الرفاهية بالنسبة لفرد من أفراد المجتمع أو مستوى إنتاج مؤسسة أخرى.
2- التخفيض أو التحسين في الإنتاج أو الرفاهية يجب أن يكون غير معوض : مسبب الآثار الخارجية والذي يؤثر على رفاه أو إنتاج الآخرين لا يقوم بدفع (أو استلام حالة المؤثرات الخارجية الموجبة) أي تعويض لنشاطه بقيمة تعادل التكلفة الناتجة عن نشاط الآخرين.
وعلى ذلك يمكننا القول أن أية نفقات إضافية يتحملها الأفراد الآخرون والمنشآت الأخرى نتيجة للنشاط الإنتاجي لوحدة اقتصادية تعتبر نفقات خارجية، وعلى ذلك نلاحظ:
External Cost + Private Cost = Social Cost
التكلفة الاجتماعية = مجموع التكاليف الخاصة + التكاليف الخارجية التي تتحملها
( التكلفة من وجهة نظر المجتمع) بالمنشأة القائمة على الإنتاج المنشآت الأخرى والأفراد الآخرون
ونقصد بالتكلفة الخارجية تلك التكاليف التي تفرض على بعض المنشآت والأفراد في المجتمع ولا تعكسها الأسعار النسبية السائدة في السوق.
فعندما تتدهور وتنقص منافع أفراد أو مؤسسات نتيجة للآثار الخارجية لنشاط إنتاجي لمؤسسة ما،وتحملها لتكاليف ليست مسئولة عنها، تسمى الآثار الخارجية السلبية: حالة العوامل الخارجية التي تتوافق مع تدهور البيئة ، مثل غازات الانبعاثات الدافئة، والتلوث ، والنفايات ، وغير ذلك من التحولات المنتجة، التغيرات الظاهرة في حجم وهيكل الأسواق، والانقسامات الجديدة على الأقاليم التي يحكمها منطق السيطرة على تنقل وتعويض الآثار الخارجية السلبية.
وقد يكون الأثر الخارجي إيجابي، عندما يستفيد أفراد أو مؤسسات بمنافع وزيادة في رفاهيتهم نتيجة للنشاط الإنتاجي لمؤسسة ما،دون أن يدفعوا نظير الاستفادة بهذه المنافع: نتكلم هنا عن حالة الآثار الخارجية الناجمة عن أنشطة البحث والتطوير التي تقوم بها بعض الشركات والتي تعود فوائدها على الآخرين ، أو توفير الراحة النفسية والمتعة للجيران من قبل أصحاب الحدائق الجميلة، كالاستفادة من الطرق المؤدية للمنشأة، أو تجفيف المستنقعات في منطقة معينة تمهيدا لإقامة المنشأة فتقل أسراب الحشرات ويقضى على الأمراض التي كان يعاني منها سكان المنطقة، حيث أن التخطيط أو إعادة التخطيط للحصول على الآثار الخارجية الإيجابية للشركات، شأنها في ذلك شأن جميع المنظمات، حيث أصبحت القضية الأساسية للبلدان الصناعية التي تعاني من نضوب في دورتها الإنتاجية.
ولتوضيح الفكرة أكثر نقوم بالتمثيل البياني للأثر الخارجي الناجم عن انحراف التكلفة الاجتماعية والتكلفة الخاصة بالمؤسسة على النحو التالي:
الشكل رقم (I-5): إدخال التكاليف الاجتماعية في حالة التوازن (الأثر سلبي)
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص98
كما هو موضح في الشكل فإن منحنى التكلفة الحدية الاجتماعية يقع أعلى من منحنى التكلفة الحدية الخاصة عند أي مستوى من مستويات الإنتاج، والمسافة الرأسية بين هذين المنحنيين تقيس التكلفة الخارجية وهي ثابتة بالنسبة للوحدات المتتالية من الإنتاج.
يتحدد التوازن عند (P,Q) ، بافتراض عدم تعويض التكاليف التي يتحملها عون آخر نتيجة الأثر الخارجي السالب، بمعنى آخر لا يعكس السعر P مجموع التكاليف الناجمة عن الإنتاج والتي من المفترض أن تتضمن التكاليف الاجتماعية غير المأخوذة بعين الاعتبار.
إن الاقتصاديين يأخذون هذه الآثار الخارجية (السلبية منها والإيجابية) في الحسبان عند تحليل المشكلات البيئية. وسنحاول تعميق فكرة الآثار الخارجية مستخدمين آثار التوازن الجزئي البسيط، وللتوضيح أكثر نفترض أن هناك نهرا صغيرا يجري في منطقة معينة، وأن مصنعا لإنتاج السلعة X قد أقيم على الأرض الواقعة في المنطقة العليا للنهر. أما المنطقة السفلى له فصالحة للزراعة المحصول Y، وهي ملك لأحد المزارعين الذي يستخدم مياه النهر لري محصوله الذي يقوم بزراعته.
بافتراض أن متوسط إنتاجية الهكتار كانت مرتفعة، بحيث أن المزارع لا يفكر في استخدام الأرض لأي استعمال بديل، أو الالتحاق بوظيفة أخرى. بدأ المصنع بعملياته الإنتاجية في ظل المنافسة الكاملة وأخذ يلقي مخلفاته في مياه النهر، مما ترتب عليه تلوث هذه المياه. ومع مرور الوقت ارتفع معدل التلوث، فأثر ذلك على إنتاجية الهكتار في المنطقة السفلية للنهر وتدهورت، ما جعل المزارع يفكر في التوقف نهائيا عن الزراعة، هنا نكون بصدد الآثار الخارجية المترتبة على إنتاج السلعة X للمصنع.
نلاحظ من المثال السابق أن المجتمع يحقق مكاسب من وراء المصنع ولكنه في نفس الوقت يتحمل خسائر متمثلة في انخفاض إنتاجية الأرض الزراعية، فصافي مكسب المجتمع من إنتاج المصنع في حالة اقتصاد يتمتع بالتوظيف الكامل يساوي الزيادة في قيمة منتجات المصنع بما يفوق قيمة عناصر الإنتاج المستخدمة لهذا الإنتاج (بافتراض أنه تم استخدام عناصر الإنتاج أفضل استخدام بين الاحتمالات البديلة المتاحة)، أما إذا اضطر المزارع إلى ترك مزرعته تحت تأثير التلوث، وفي نفس الوقت لم يجد عملا آخر يقوم به، وأصبحت الأرض لا قيمة لها في أي استخدام آخر، فإن الخسارة في هذه الحالة تعادل القيمة الكلية للمحصول، وذلك بافتراض ضمني لعدم وجود سوق لبيع وشراء حقوق استخدام النهر، فالمزارع لا يستطيع معاقبة صاحب المصنع نتيجة لقيامه بإلقاء نفايات في النهر، كما أن صاحب المصنع لن يأخذ في الحسبان عند حسابه لتكاليفه الآثار الخارجية التي يفرضها نشاطه الإنتاجي على المزارع. وقد افترضنا كذلك عدم التدخل الحكومي لضمان حسن استخدام مياه النهر وعدم وجود قوانين لضمان حقوق استخدام هذه المياه.
وعليه فإن إنتاج المصنع للسلعة X قد يشكل نوعا من الآثار الخارجية السلبية للمجتمع، يمكن قياس ذلك عن طريق تقدير الانخفاض والخسارة في صافي دخل المزارع.
أما في حالة ملكية المزارع للأرض بالإضافة إلى ملكيته للمصنع فأن النتيجة تختلف، ففي ظل هذا الوضع يمكن القيام بحسابات اقتصادية رشيدة للمنشاة المالكة للمزرعة وللمصنع، وسوف تؤكد الحسابات ما إذا كان التحول من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي يعتبر أمرا مربحا أم لا. ومثل هذه الحسابات تظهر الحل الأمثل الذي يقدمه نظام السوق. فمياه النهر كغيرها من الموارد الإنتاجية الأخرى، يجب أن تخصص في أفضل وأكفأ استخدام اجتماعي ممكن.
وكما نعرف من دراسة الاقتصاد أن المساواة بين السعر والتكلفة الحدية تعتبر شرطا ضروريا لتعظيم الربح في ظل وجود المنافسة الكاملة. فما مدى صحة هذا الشرط في ظل وجود الآثار الخارجية السلبية؟
إن التكلفة الحدية هي مقدار التغير في التكلفة الكلية نتيجة وحدة واحدة إضافية من السلعة X. والافتراض الضمني هنا هو أن كافة التكاليف تتحملها المنشأة التي تقوم بالعمليات الإنتاجية، ولذلك نطلق على منحنى التكلفة الحدية للمنشاة منحنى التكلفة الحدية الخاصة (PMC) ففي ظل المنافسة الكاملة فإن المنشأة التي تستهدف تعظيم الربح سوف تحقق حجم الإنتاج الأمثل عند الحجم 0 q3 حيث MPC=P كما هو مبين في الشكل أدناه.
الشكل رقم (I-6): توازن المنشأة في حالة الآثار السلبية (سوق المنافسة الكاملة)
المصدر: المعهد العربي للتخطيط، تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، الكويت.2005، ص 4.
لاحظ أن منحنى التكلفة الحدية الخاصة (PMC) يتضمن كافة التكاليف التي تدفعها المنشأة كعوائد لعناصر الإنتاج والمستلزمات الإنتاجية، ولكن هناك تكلفة أخرى لم تأخذها المنشأة في الحسبان وهي صافي خسارة الدخل للمزارع نتيجة لتخليه عن إنتاجه الزراعي للمحصول Y أو تخفيضه للكمية المنتجة، فهذه الخسارة تعتبر تكلفة إضافية من وجهة نظر المجتمع، وهي لا تدخل عند رسم منحنى التكلفة الحدية الخاصة PMC للسلعة X. وعليه فإننا نستطيع أن نتنبأ بوجود منحنى تكلفة حدية آخر يأخذ كافة تكاليف إنتاج المصنع في الاعتبار الخاص بالمنشأة والخارجي منها(أي من وجهة نظر المجتمع)، وهذا ما نسميه بمنحنى التكلفة الحدية الاجتماعية (SMC) كما هو واضح في الشكل أعلاه فإن المنحنى يقع بالكامل أعلى منحنى التكلفة الحدية الخاصة PMC، عند أي مستوى من الإنتاج. وأن المسافة الرأسية بين منحنى التكلفة الحدية الخاصة PMC ومنحنى التكلفة الحدية الاجتماعية (SMC) إنما تقيس التكلفة الخارجية(مقدار الخسارة في صافي دخل المزارع، نتيجة لكل وحدة إضافية منتجة من X). فعلى سبيل المثال، فإن التكلفة الحدية الخاصة لإنتاج الوحدة q1 هي 0p1 بينما التكلفة الحدية الاجتماعية لهذه الوحدة هي 0p2 والفارق بين 0p2 و 0p1 يعكس التكلفة الحدية الخارجية لإنتاج الوحدة من X. وبافتراض أن المسافة الرأسية بين التكلفة الحدية الاجتماعية و التكلفة الحدية الخاصة ثابتة ما يعطينا تكلفة حدية خارجية لإنتاج X ثابتة بالنسبة للوحدات المتتالية من الإنتاج ولا تعتمد على كمية X المنتجة. وهذا التبسيط الأخير لن يؤثر على النتائج الأساسية التي نريد توضيحها.
وبما أن التحليل يقوم على افتراض وضع المنافسة الكاملة، فإن منتج المصنع X يعتبر آخذا للسعر أي لا يستطيع التأثير فيه.ولذلك رسم منحنى الطلب الذي يواجه هذا المنتج في الشكل الموازي للمحور الأفقي.
وبالرجوع إلى الشكل السابق يكون حجم الإنتاج الأمثل من وجهة نظر المنشأة هو 0q3 حيث يكون PMC P3 وهو شرط تعظيم الربح في ظل المنافسة الكاملة. أما من وجهة نظر المجتمع ككل، فإن حجم الإنتاج الأمثل يكون 0q2 حيث SMC P2 (= SMC تكلفة حدية خاصة زائدا التكلفة الخارجية).
وعلى ذلك يتضح لنا أنه في ظل سوق المنافسة الكاملة أدى إهمال الآثار الخارجية للإنتاج إلى إفراط في إنتاج X بالمقدار q2q3. فالموارد المستخدمة في إنتاج q2q3 من السلعة X كان من الأفضل توجيهها لإنتاج سلع أخرى، وعليه فإن إهمال الآثار الخارجية قد أدى إلى الإسراف في إنتاج بعض السلع وإلى نقص شديد في إنتاج بعض السلع الأخرى، حيث موارد المجتمع نادرة نسبيا، بل قد يصل الوضع إلى حد التوقف النهائي عن إنتاج بعض السلع الأخرى. وعلى ذلك أمكننا التوصل على النتيجة التالية:
إنه في ظل سوق المنافسة الكاملة يؤدي وجود الآثار الخارجية السلبية إلى عدم التخصيص الأمثل للموارد، فالكميات المنتجة من بعض السلع يكون مبالغا فيها، بينما تتسم الكميات المنتجة من بعض السلع الأخرى بالنقص الشديد نظرا لتوجيه قدر كبير من الموارد الإنتاجية في المجتمع لإنتاج السلع الأولى(على فرض التوظيف الكامل للموارد).
افترضنا في المثال السابق وجود منشأة واحدة تقوم بإنتاج سلعة X ما حيث يترتب على نشاطها الآثار الخارجية السالبة، كما أن التغيرات في ناتج هذه المنشأة وحدها لا يؤثر على السعر السوقي طالما تنتج في ظل المنافسة الكاملة، ولكي تبدوا الصورة أكثر وضوحا، سنفترض أن كافة المنشآت المنتجة لتلك السلعة X تسبب نفس الدرجة من التكلفة الخارجية المترتبة على نشاطها الإنتاجي. فهذا الافتراض يسمح لنا بالانتقال بالتحليل من مستوى المنشأة إلى مستوى الصناعة ككل. فإذا قامت كافة المنشآت المنتجة لتلك السلعة بإلقاء النفايات في مياه النهر فإن المجتمع سيتأثر حيث تنهار الثروة السمكية، ويفرض على المدن الواقعة على جانب النهر أن تخصص مبالغ كبيرة لتنقية المياه حتى تكون صالحة للشرب. ولتبسيط الصورة سوف نفترض أن منشآت تلك السلعة X عددها كبير وأنها تتسم بالتجانس من حيث ما يترتب على نشاطها من تكلفة خارجية وتكلفة خاصة، علما أن هذا الافتراض لن يؤثر على النتائج التي نريد توضيحها.
كما عرفنا من دراستنا للنظرية الاقتصادية الجزئية، فإن منحنى عرض المنشأة في المنافسة التامة هو الجزء الصاعد من منحنى التكلفة الحدية، بعد أن يقطع منحنى متوسط التكلفة المتغيرة (AVC) عند حده الأدنى. وبتجميع منحنيات العرض الخاصة لكافة المنشآت المنتجة لتلك السلعة تجميعا أفقيا نحصل على منحنى العرض الخاص للصناعة PS في الشكل القادم نلاحظ أن كل منشأة سوف تنتج الكمية المتوازنة 0q3 عند السعر 0p3 وبالتالي فإنه عند السعر 0p3 فإن عدد n من المنشآت المتماثلة سوف تبيع الكمية 0q2 n حيث:
0q3 = الكمية التوازنية للمنشأة
n = هو عدد المنشآت
وعلينا ملاحظة أن أية نقطة على منحنى عرض الصناعة يمكن الحصول عليها عن طريق تجميع الكميات التي تكون كل منشأة راغبة في عرضها عند السعر المناظر. فهذا المنحنى هو منحنى العرض الخاص لصناعة تلك السلعة PS.
وبالمثل فإنه عن طريق تجميع منحنيات التكلفة الحدية الاجتماعية لكافة المنشآت المنتجة للسلعة X تجميعا أفقيا نكون بصدد منحنى العرض الاجتماعي SS لصناعة تلك السلعة.
الشكل رقم (I-7): توازن الصناعة في حالة وجود الآثار الخارجية
المصدر: تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، العدد 21،ص 6
نلاحظ من الشكل أعلاه أن منحنى العرض الاجتماعي يقع بالكامل أعلى منحنى العرض الخاص للصناعة، مما يعكس الفارق بين التكلفة الحدية الخاصة والتكلفة الحدية الاجتماعية لجميع منشآت السلعة X. فالمسافة الرأسية بين المنحنيين تمثل إجمالي التكلفة الخارجية المفروضة على المجتمع عند أي مستوى من مستويات إنتاج السلعة.
نحن ندرك أنه على الرغم من أن منحنى العرض الخاص بالصناعة يمكن الحصول عليه بملاحظة مدى استجابة العرض للأسعار المختلفة، إلا أن منحى العرض الاجتماعي يعتمد على عوامل خارجية ومعلومات لا يمكن الحصول عليها من خلال نظام السوق.
طبقا للفرضيات السابقة فإن المنشأة سوف تعتمد في اتخاذ قراراتها المختلفة على التكلفة الخاصة، ولن تبالي بالتكلفة الخارجية لنشاطها، مما ينعكس على منحنى العرض الاجتماعي للصناعة.
-2-1-1 الآثار الخارجية السلبية ومدى تأثيرها على الأسعار النسبية:
توصلنا في التحليل السابق إلى منحنى العرض الخاص PS ومنحنى العرض الاجتماعي SS، فإذا أخذنا وضع منحنى الطلب على صناعة السلعة X في الحسبان فإننا نستطيع التوصل إلى بعض النتائج الهامة من خلال الشكل(I-8) :
- إن سعر التوازن للصناعة 0p3 هو السعر السوقي الذي يواجه كافة المنشآت كما هو واضح في الشكل (I-7)، وأن كمية الإنتاج التوازنية لصناعة السلعة X الموضحة في الشكل (I-8) 0q2 تكون مساوية تماما إلى مجموع الناتج التوازني لكافة المنشآت 0p3 في شكل (I-7)، أي أن 0p3 في الشكل رقم (I-8) تساوي 0p3 مضروبة في n عدد المنشآت في الشكل (I-7) حيث يتحدد السعر التوازني بتقاطع منحنى الطلب مع منحنى العرض.
- إن المنحنى الذي يعكس التكلفة الحدية الاجتماعية المترتبة على إنتاج السلعة X هو منحنى العرض الاجتماعي للصناعة وليس منحنى العرض الخاص. لاحظ أن منحنى العرض الاجتماعي يبين قيمة الإنتاج المفقود من المحصول الزراعي Y(في حالة المثال السابق) وجميع التكاليف الخارجية المفروضة على المنشآت والأفراد بواسطة منشآت السلعة X.
- إذا كان منحنى عرض الصناعة هو منحنى العرض الاجتماعي فإن كمية الإنتاج التوازنية سوف تتحدد بالكمية 0q1 وحدة في الشكل (I-8) وليس 0q2 وسوف يكون سعر السوق 0q1 بدلا من 0p3.
- بالمقارنة بين النتيجة الأولى والثالثة فإننا نلاحظ أن نظام السوق الذي أهمل الآثار الخارجية قد أدى إلى زيادة كمية الإنتاج التوازنية بالمقدار q1q3 وانخفاض سعر التوازن بالمقدار q1q3، وبالتالي يساء استخدام الموارد، حيث أدى نظام السوق إلى الإفراط في إنتاج السلعة X.
-2-1-2 الآثار الخارجية الإيجابية ومدى تأثيرها على الأسعار النسبية
عندما يتمتع الأفراد أو المنشآت بمنافع نتيجة للنشاط الإنتاجي لمنشأة معينة فإننا نكون بصدد الآثار الخارجية الإيجابية، فكما أن الأفراد الذين يتضررون من نشاط منشأة معينة لن يتم تعويضهم عن هذه الخسائر والأضرار، فإن المستفيدين بالمثل لن يدفعوا نظير استفادتهم بالمنافع الخارجية، وحتى نربط بين الآثار الخارجية الإيجابية ومشكلات التلوث نستطيع تناول المثال التالي.
لنفترض أن منشأة قد اشترت قطعة أرض لإقامة مصنع جديد، ولكن وجد صاحب المنشأة أن الأرض بها مستنقعات وأنها بحاجة إلى عمليات صرف للمياه الزائدة، ونتيجة لتجفيف المستنقعات تخلصت المنطقة السكنية التي بها أرض المصنع من أسراب الحشرات التي كانت تسبب الكثير من الأمراض، وبالتالي وفرت هذه المنشأة على الدولة الأموال المنفقة على عمليات الرش وإبادة الحشرات، وأصبح من الممكن استخدام هذه الأموال في أوجه النفع الأخرى كبناء المدارس والمستشفيات .....الخ.
بالطبع سوف نلاحظ أنه في حالة الآثار الخارجية الإيجابية فإن منحنى التكلفة الحدية الاجتماعية سيكون بالكامل أسفل منحنى التكلفة الحدية الخاصة، على عكس الوضع في حالة الآثار الخارجية السلبية، حيث أن:
PEx - PMC = SMC
التكلفة الحدية الاجتماعية = التكلفة الحدية الخاصة - الآثار الخارجية الإيجابية
وهذا ما يوضحه الشكل التالي:
الشكل رقم (I-8): توازن المنشأة في حالة الآثار الخارجية الإيجابية
المصدر: تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، العدد 21،ص 9
ففي حالة إهمال الآثار الخارجية الإيجابية يتحقق حجم الإنتاج التوازني من وجهة نظر المنشأة عند الكمية 0q1 حيث السعر PMC p3 ، وهذه الكمية أقل بكثير من الكمية التوازنية إذا ما أخذنا وجهة النظر الاجتماعية في الحسبان، فبالنسبة للمجتمع ككل يتحقق حجم الإنتاج التوازني عندما يتساوى السعر مع التكلفة الحدية الاجتماعية فيصبح حجم الإنتاج الأمثل 0q2، وبذلك أدى نظام السوق إلى النقص الشديد في إنتاج السلعة التي ترتب على نشاطها آثار خارجية إيجابية فتكون بصدد سوء تخصيص موارد.
كذلك فإننا نتوقع من التحليل السابق أن يكون منحنى العرض الخاص للصناعة أعلى من منحنى العرض الاجتماعي للصناعة عند كل مستوى من مستويات الإنتاج، ويصبح توازن الصناعة في حالة الآثار الخارجية الإيجابية كما هو موضح في الشكل أدناه.
الشكل رقم (I-9): يوضح توازن الصناعة في حالة الآثار الخارجية الإيجابية
المصدر: تحليل الآثار الاقتصادية للمشكلات البيئية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، العدد 21،ص 9
يتضح من الشكل السابق أن الصناعة عند التوازن سوف تنتج كمية أقل من الكمية المثلى من وجهة نظر المجتمع، وبالتالي وف يكون سعر التوازن مرتفعا( فالكمية 0q1 أقل بكثير من الكمية 0q2 التي تعتبر الكمية التوازنية الاجتماعية والتي تتحدد بنقطة التقاطع بين منحنى الطلب على الصناعة ومنحنى العرض الاجتماعي للصناعة).
مما سبق نستطيع استنتاج نتيجة أساسية مفادها: أن نظام السوق يفشل في تحقيق التخصيص الأمثل للموارد نظرا لوجود الآثار الخارجية الإيجابية منها والسلبية إذا لم تؤخذ هذه الآثار في الحسبان.
-2-1-3 الشروط الخارجية والشروط الضرورية لنظام الرفاهية الاجتماعية
رأينا أن التخصص الأمثل للموارد في سوق المنافسة الكاملة (دون أخذ الآثار الخارجية في الحسبان) يحقق الوضع الأمثل لباريتو، فيتحدد التوازن في هذا السوق عندما يتساوى معدل الإحلال الحدي MRS في الاستهلاك بين سلعتين مع معدل التحول الحدي (MRT = Mc x Mc y ) في الإنتاج لنفس هاتين السلعتين، وعليه فإن شروط الوصول إلى أقصى رفاهية اجتماعية للسلعتين x وy تتحقق عندما:
MRS x, y = MRT x, y
وبما أن:
MRT x y = - ( Mc x Mc y)
فإذا ما أخذنا وجهة النظر الاجتماعية في الحسبان، فإن التكلفة الحدية لكل من السلعتين x وy تشتمل على التكلفة الخاصة زائدا التكلفة الخارجية.
فالتكلفة الاجتماعية = التكلفة الخاصة + التكلفة الخارجية
إن تعظيم الربح من وجهة النظر الخاصة للمنشأة تتحقق في ظل ظروف المنافسة الكاملة، حيث أن:
(التكلفة الحدية الخاصة) P = PMC
ولكننا نعرف أن: MRT x y = PMc x PMc y
ولنفرض أن إنتاج السلعة x يفرض تكلفة خارجية على المجتمع بينما إنتاج السلعة y لا يحمل المجتمع أية تكاليف خارجية، فباستخدام المنطق التحليلي للآثار الخارجية نجد أن:
(1) SMc x > PMc y
(2) SMc y = PMc x
من (1) و (2) نجد: (SMc x SMc y) > (PMc x PMc y)
أي أن: معدل التحول الاجتماعي معدل التحول الخاص
وبالتالي فإن معدل التحول الاجتماعي لا يساوي معدل التحول الخاص، وكذلك فإن معدل الإحلال الحدي بين السلعتين x و y لن يكون مساويا لمعدل التحول الاجتماعي، وبالتالي فإننا لن نكون بصدد وضع يعظم الرفاهية الاجتماعية، حيث أن الرفاهية يمكن أن ترتفع عن طريق تعديل PMc x ، أي التكلفة الحدية الخاصة بالسلعة x بصورة تعكس التكاليف الخارجية المرتفعة المتضمنة في التكلفة الحدية الاجتماعية للسلعة x (أي SMc x)، وأن هذا الارتفاع في التكلفة الحدية الخاصة PMc x للسلعة x، سوف يرفع سعرها السوقي، فينخفض مستوى الطلب على السلعة x ومن ثم إنتاجها فتتحرر بعض الموارد التي كانت مستغلة لإنتاج السلعة x فتستخدم لإنتاج سلع أخرى يرتفع التقييم الاجتماعي بشأنها.
نلاحظ مما تقدم أن شروط تعظيم الرفاهية الاجتماعية تكمن في المساواة بين معدل الإحلال الحدي في الاستهلاك بين السلعتين ومعدل التحول الحدي في الإنتاج بين نفس السلعتين. ولكن يجب أخذ كافة التكاليف والمنافع الخارجية في الحسبان إلى جانب التكاليف والمنافع الخاصة. وبصفة عامة، فإنه طالما أن نظام السوق يهمل هذه الآثار الخارجية الإيجابية منها والسلبية فلن يعمل هذا النظام على تحقيق التخصيص الأمثل للموارد ولن يعظم الرفاهية الاجتماعية.
-2-2 تقييم الآثار البيئية
أدى الاهتمام المتزايد بقضايا البيئة عامة والقضايا المصاحبة لعمليات التنمية خاصة إلى المطالبة بتقييم الآثار البيئية المختلفة لمشروعات التنمية في الدول حتى يمكن التعرف على المشكلات البيئية وتحديد أنسب طرق التعامل معها منذ بداية عمل هذه المشروعات عملا بالحكمة القائلة ( الوقاية خير من العلاج).
وذلك حتى يمكن تحقيق التوافق بين عمليات التنمية وحماية البيئة أو بمعنى آخر تحقيق ما يعرف بالتنمية المستدامة, ولقد لجأت هيئات دولية وإقليمية وقومية مختلفة إلى إدخال عمليات التقييم البيئية لمشروعات التنمية كجزء من دراسات الجدوى لهذه المشروعات لتحديد أفضل الخيارات لتنفيذها .
-2-2-1 عمليات تقييم الآثار البيئية
خلال العقدين الماضيين أدخلت مصطلحات مختلفة لوصف عمليات التقييم البيئي ما أدى إلى خلط بين موضوعين مختلفين: الأول هو تقييم الآثار البيئية المحتملة لمشروعات صناعية ما زالت في مرحلة التخطيط, أي المصنع لم يشيد ولم يبدأ العمل فيه, والثاني هو تقييم الآثار البيئية الناتجة فعلا من صناعة قائمة منتجة.
وقد أصدرت وزارة الصناعة بالتعاون مع وزارة الإدارة المحلية والبيئة دليلا لتقييم الآثار البيئية للصناعة السورية وفيما يلي وصف لهذين النوعين من التقييم البيئي وقائمة باسم الصناعات ذات الأولوية في ذلك.
أ- المشروعات الجديدة:
تتكون عملية تقييم الآثار البيئية المحتملة للمشروعات الصناعية الجاري التخطيط لها من (تخمين) أو (تقدير) للآثار البيئية المحتمل حدوثها نتيجة لتنفيذ هذه المشروعات على أرض الواقع.
وغالبا ما يتم ذلك في إطار دراسات الجدوى الاقتصادية والفنية للمساعدة على اتخاذ القرار المناسب واختيار أفضل البدائل المطروحة لتنفيذ هذا المشروع, وتختلف تفاصيل عملية التقييم البيئي طبقا لنوع المشروع وحجمه ولكن هناك إطار عام لهذا التقييم تلخصه الأسئلة التالية:
أولا: موقع إقامة المشروع الصناعي... هل سيتعارض مع مشروعات أخرى أكثر جدوى منه اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا مثل مشروعات زراعية أو سياحية أو سكانية..الخ.
وهل سيتحمل النظام أو النظم البيئية المحيطة بالموقع أحمال الملوثات الغازية والسائلة والصلبة التي ستنتج عن المشروع.
ثانيا:هل سيؤدي المشروع الصناعي المزمع إقامته إلى حدوث آثار صحية طويلة المدى, وما هي احتمالات حدوث كوارث صناعية من المشروع, وما مدى آثارها على الإنسان والبيئة المحيطة بالموقع.
ثالثا: ما هي آثار المشروع على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في المناطق التي سيقام فيها, وهل سيؤثر على مشروعات أخرى قائمة بالفعل في المنطقة وما مدى هذه الآثار.
رابعا: البنية الأساسية للمشروع هل تتوافر في الموقع وإذا لم تتوافر ما هي آثار إنشاء مكونات هذه البنية الأساسية, وكذلك هل تتوافر المصادر الطبيعية اللازمة للمشروع بالقرب من موقعه أم أنها ستنقل من مناطق أخرى وما آثار ذلك على البيئة. خامسا: العمالة اللازمة للمشروع ما هو حجمها وما آثار توطينها في المستوطنات البشرية الموجودة فعلا حول موقع المشروع على النواحي الاجتماعية والبيئية والاقتصادية.
سادسا: ما هي الملوثات المختلفة التي يمكن أن تصدر عن المشروع الصناعي وما هي الطرق التي ستتخذ للتعامل معها حفاظا على صحة العاملين بالمشروع والسكان المجاورين له والبيئة بوجه عام.
والمفروض أن تتم علمية التقييم البيئية هذه بالتفصيل مع تقدير مادي للآثار البيئية كلما أمكن ذلك وتحليل مفصل للتكاليف والمردودات على المدى البعيد حتى يمكن اتخاذ القرارات السليمة, وبعد الانتهاء من عملية التقييم البيئي يصدر ما يعرف باسم بيان أو تقرير الآثار البيئية وهو الوثيقة الرسمية التي تعد طبقا لنماذج محددة وتقدم مع دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية.
ب- الصناعات القائمة:
أما بالنسبة للصناعات القائمة فإن الدليل حاول أن يجيب على السؤال التالي: كيف يمكن التعامل مع التلوث الناجم عن هذه الصناعات وتقليل آثاره على صحة الإنسان والبيئية..؟
ويشير الدليل إلى أنه لابد أولا من التعرف على نوع وكميات هذه الملوثات بدقة حتى يمكن تحديد الطرق العملية المناسبة للتعامل معها ولقد أطلق على ذلك تعبير تقييم الآثار البيئية للصناعات القائمة, وهو تعبير مماثل لما أشير إليه أعلاه أي المستخدم في تقييم الآثار البيئية المحتملة للمشروعات الصناعية التي ما زالت في مرحلة التخطيط أو تسمى أحيانا المراجعة البيئية للمشاريع القائمة.
ولقد بدأ هذا الموقف يتغير تدريجيا خاصة منذ عقد المؤتمر الدولي للإدارة البيئية في الصناعة في منتصف الثمانينات في فرساي عندما بدأت صناعات كثيرة تقتنع أنه ينبغي التعامل مع مشكلة التلوث الصناعي بأسلوب موضوعي يتجنب التزمت والمبالغة في نتائج التلوث من جهة, ومن جهة أخرى يتجنب التساهل في معالجة المشكلة عن طريق اعتبار التلوث أحد العناصر التي يجب إدخال تكاليف التخلص من آثاره ضمن مكاسب مادية وأدبية كبيرة.
ومثال ذلك مشروع حفظ الطاقة الذي تقيمه سورية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي لرفع كفاءة استخدام الطاقة في الصناعة حيث تحقق الصناعات التي تطبقه أرباحا كثيرة نتيجة لخفض كميات الطاقة المستخدمة بالإضافة إلى خفض ملموس في كميات الملوثات الناتجة من حرق الوقود.
وأدى التغيير الكبير في مفهوم الصناعة لقضايا البيئة إلى تحول تدريجي للنموذج التقليدي للنشاط الصناعي ( الذي يحصل فيه المنتجون على المواد الخام وينتجون منتجات لكي تباع بالإضافة إلى توليد نفايات ينبغي التخلص منها) إلى نموذج أكثر تكاملا وتوافقا مع البيئة, فيما أطلق عليه تعبير ( النظام الصناعي الايكولوجي) أو عملية ( تخضير الصناعة) إشارة إلى الخضرة أو الحياة وفي هذا النظام يتم الاستخدام الأمثل للطاقة والمواد والتقليل إلى أقصى حد من توليد النفايات.
وأشار الدليل إلى أن صناعات كثيرة في الدول المتقدمة والنامية عكفت على تشخيص آثارها البيئية لوضع أفضل الوسائل العملية واستخدام أفضل الطرق التكنولوجية المتاحة للتعامل مع هذه الآثار والتقليل منها ولقد استخدمت بعض الهيئات تعبير ( تقييم الآثار البيئية) في حين يفضل البعض الآخر استخدام تعبير ( تشخيص الآثار البيئية) والبعض الثالث تعبير( الفحص أو الجرد البيئي) والواقع أنها كلها تؤدي إلى نفس الهدف وهو التعرف على مواطن العلة في الصناعة لمعالجتها.
-2-2-2 تقرير تقييم الأثر البيئي
ألحق بالدليل المواصفات الفنية لإعداد تقرير تقييم الأثر البيئي بحيث يعطي المعلومات المطلوبة لاتخاذ قرار الترخيص على أن يتضمن التقرير 12 بندا مختلفا.
وتشمل البنود الثلاثة الأولى ملخصا تنفيذيا وقائمة المحتويات ومقدمة تعرف المشروع وصاحبه وهدفه ومبرراته وأهميته للبلد ووصفا مختصرا لنوعية وحجم وموقع المشروع إضافة إلى نطاق الدراسة ( تقييم الأثر البيئي) ويشمل الجهة التي أعدت الدراسة، ويتطرق البند الرابع إلى إطار السياسات والأطر القانونية والإدارية وتشمل:
- المؤسسة ذات الصلاحية وإمكانياتها على المستوى المحلي والوطني.
- التشريعات البيئية وتلك المتعلقة بها والتنظيمات والسياسة المتبعة في البلد.
- التشريعات التي تحكم القطاع الذي يندرج تحته المشروع.
- المتطلبات البيئية لأي من المشاركين في التمويل.
- الاتفاقيات أو المعاهدات البيئية المطبقة والتي انضم إليها البلد.
ويضاف إلى ذلك مدى المشاركة العامة سواء من الجهات الرسمية أو من المنظمات غير الحكومية أو المجموعات المتضررة من المشروع.
أ- النواحي الاقتصادية والطبيعية
ويختص البند السادس من التقرير بوصف المشروع المقترح من حيث نوعه وموقعه وحجمه مزودا بالخرائط وقائمة بالنشاطات المرتبطة به، المطلوبة منه أولا والبرنامج المقترح للإنشاء والتشغيل ويشمل التقرير وصفا للبيئة المحيطة بالمشروع ضمن ثلاثة محاور نذكرها كما يلي:
المحور الأول: يعمل على البيئة الفيزيائية والكيميائية من حيث طبوغرافية وجيولوجية الأرض ودراسة تأثير الزلازل أو غيرها من الأخطار ودراسة المياه السطحية،المياه الجوفية، المقاييس البحرية والساحلية، الخدمات الموجودة لصرف المياه الملوثة ونوعية المياه والهواء المحيط ومصادر تلوث الهواء الموجودة،المناخ، الرصد الجوي والضجيج.
المحور الثاني: البيئة الجيولوجية بما فيها من النباتات والحيوانات والأسماك والكائنات الحية المائية والأنواع النادرة أو المعرضة للخطر والمناطق الحساسة ( غابات- محميات طبيعية- متنزهات طبيعية- الخ).
أما الثالث والأخير: فهو البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي تشمل العنصر الديموغرافي ( السكان- النسيج الاجتماعي- العمالة- توزيع المداخيل - العادات والتقاليد- تطلعات السكان- الخ ) ونشاطات التنمية ( البيئة التحتية- الصناعة - الزراعة- المؤسسات- السياحة- الترفيه- الخ).
كذلك استعمال الأراضي وحركة السير والصحة العامة والتراث الأثري والتاريخي والقيم الجمالية والقيم الحضارية والثقافية ( عادات وتقاليد وتطلعات).
ب- الإدارة السليمة
وإذا كان التقرير ملزما بتقييم الآثار البيئية المحتملة للمشروع ( الايجابية والسلبية) من النواحي الفيزيائية والكيميائية البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية، فإنه ملزم أيضا بتحليل البدائل للمشروع في حال عدم تنفيذه أو عبر مشاريع بديلة ذات الأهداف نفسها أو بإقامة المشروع ذاته مع تقنيات بديلة وذلك بمقارنة الإمكانيات المختلفة اقتصاديا وبيئيا.
ويتصدى التقرير في البند العاشر إلى خطة الإدارة البيئية السليمة عبر ثلاثة برامج, الأول للتخفيف من الآثار السلبية يشمل ملخصا عن الآثار البيئية المهمة وتفصيلا تقنيا لكل من التدابير التخفيفية ( على أي آثار يتم تطبيقها وما هي شروط تطبيقها - تصاميمها و تفصيل التجهيزات- إجراءات التشغيل) كذلك الآثار البيئية المحتملة لهذه التدابير وارتباط هذه التدابير ببرامج تخفيفية أخرى وحساب كلفة برنامج التخفيف من الآثار السلبية.
أما برنامج الرصد والمراقبة فيحوي تفصيلا تقنيا محددا لوسائل المراقبة ( المعايير الخاضعة لها - أساليبها - دوريتها- أماكنها- إجراء القياسات- حفظ المعلومات وتحليلها- إجراءات الطوارئ) إضافة إلى إجراءات رفع التقرير وموازنة مفصلة لاقتناء التجهيزات والإمدادات اللازمة وكلفة برنامج الرصد والمراقبة.
ويختص البرنامج الأخير بتقوية القدرات المؤسساتية عبر وصف مفصل للتدابير اللازمة للقيام بالإجراءات البيئية المذكورة: القيام بالتدابير التخفيفية وإجراءات المراقبة وبرامج المساعدة التقنية واقتناء التجهيزات والإمدادات والتعديلات التنظيمية وكلفة برنامج تقوية القدرات المؤسساتية.
ويخلص التقرير إلى تقديم خلاصة للربح الصافي العام الذي يبرر تطبيق المشروع وشرح كيفية تخفيف الآثار السلبية والاستعدادات المسبقة لمتابعة المراقبة ويرفق بملاحق عن محاضر المشاركة العامة والمستندات المرتبطة بالمشروع وجداول وبيانات بالمعلومات ولوائح بالتقارير ذات الصلة والمراجع العلمية وغير العلمية التي استعملت وأسماء معدي تقرير ( تقييم الأثر البيئي) أفرادا ومؤسسات.
-2-2-3 تقييم الآثار الخارجية السلبية
نعني بتقييم الآثار الخارجية السلبية اقتصاديا ذلك التقييم النقدي للتغيرات السلبية لأهم خواص المحيط الطبيعي من جراء الأنشطة الاقتصادية، بحيث يهدف القياس النقدي للأضرار البيئية إدخال العقلانية الاقتصادية في الاستثمار المرتبط بموارد البيئة غير القابلة للتقييم بأسعار السوق من أجل المحافظة عليها وترشيد استخدامها، ومفهوم الإحلال يسمح لنا بالتقييم النقدي للضرر البيئي، ويمكن أن نوضح ذلك باستخدام منحنيات السواء على النحو التالي:
الشكل رقم (I-10): منحنيات السواء بين التلوث والمنتجات
المصدر: الطاهر خامرة، المسؤولية البيئية والاجتماعية مدخل لمساهمة المؤسسة الاقتصادية في تحقيق التنمية المستدامة، مذكرة ماجستير، جامعة ورقلة، 2007، ص 54.
تختلف منحنيات السواء هذه عن منحنيات السواء الكلاسيكية التي تتعلق بمنتوجين، فهذه المنحنيات تتعلق بمنتوج وضرر التلوث، تمثل المنحنيات C3,C2,C1توليفات بين التلوث والمنتجات والتي تتساوى من حيث مستوى الإشباع، فوجود كل من a وb على نفس المنحنى C2 يعني أن الحصول على B1 من المنتجات وP1 من التلوث كالحصول على B2 من المنتجات وP2 من التلوث.
إذا افترضنا ثبات كمية المنتوجات فإن كمية التلوث تزداد كلما انتقلنا من منحنى سواء إلى آخر أقل مستوى إشباع، وكما هو موضح في الشكل الانتقال من a إلى c وبالتالي يمكن أن نقيس الضرر الذي يحدثه التلوث نقدا، ويساوي في هذه الحالة B1B2 (الزيادة في المنتوجات B1B2 تعوض الزيادة في التلوثP1P2 وهي تقيس الضرر النقدي الذي أحدثه زيادة التلوث).
يعرف الضرر النقدي عدة مشاكل نظرية وعملية، فمثلا في حالة الموت فلا توجد أي كمية من المنتجات التي بإمكانها تعويض فرد عن موته، فيشكو تقييم الضرر من لا يقين بسبب الشكوك العلمية الخاصة بعلاقات وتفاعلات الأنظمة الحيوية بالإضافة إلى الشكوك الاقتصادية المتعلقة بأساليب التقييم الاقتصادية ومصداقية استخدامها في المجالات البيئية، فمعظم التقنيات الاقتصادية المستخدمة في التقييم النقدي للآثار البيئية تعتبر طرق تقريبية.
-2-I3 الفوائد الهامشية والتكاليف الهامشية للتطورات البيئية
فيما سبق ناقشنا التكاليف الاجتماعية المترافقة مع إنتاج السلع والخدمات التي يتم استهلاكها في الأسواق. وسوف نتابع العمل على هذا المفهوم قليلا من خلال افتراض وجود سوق للتطور البيئي، أي بدلا من التركيز على إنتاج السلع والخدمات التي نفكر فيها عادًة مثل السيارات والكتب فإننا سوف نفكر الآن بإنتاج التلوث وكيف يمكننا تحليل مكافحته.
في البدء نقوم بتحديد ما نعنيه بالتطور البيئي، بأنه التطور البيئي الذي يعزز بيئتنا وهذا التعبير يستخدم في الاقتصاد البيئي ليعني مجموعة من التغيرات في الظروف البيئية المحلية أو العالمية :
• تخفيض التلوث (أي تخفيض المخلفات الغذائية من معامل معالجة المياه الحكومية وتخفيض إطلاق الدخان).
• تنظيف أماكن التسرب و التخلص من "الكوارث" البيئية (مثل إكسون فالديز).
• تخفيض خسائر مساحات المواطن الطبيعية (مثل قوانين تخفيض تحويل الأراضي البرية لاستخدامات أخرى وحماية التنوع الحيوي).
• تنفيذ خطط حماية المواطن الطبيعية (مثل تجنب خسارة الأصناف المعرضة للخطر).
• الإنفاق الدفاعي (مثل شراء المياه المعبأة).
ويمكن أن تكون القائمة أطول، ومع ذلك فإن هذا يشير إلى أن "التطورات البيئية" تنطوي على كل ما يحسن البيئة.
-2-I3-1 المنافع الحدية
يشير الاقتصاديون إلى نظرية تراجع المنافع الحدية عند دراسة التطورات البيئية. ومثل أية سلعة أخرى يشير الاقتصاديون إلى أن التطورات البيئية (أو الموارد البيئية) لها خصائص مشابهة للسلع الأخرى التي تستهلك بشكل يومي. لذا فيفترض الاقتصاديون أن الفوائد الحدية للتطورات البيئية تنحدر باتجاه الأسفل .
أي يستخدم الاقتصاديون الدالة التي تقارن نوعية التطورات البيئية مع قيمة الفوائد من كل وحدة إضافية للتطور البيئي . وتعرف مثل هذه العلاقة بمنحنى المنافع الحدية مثل المنحنى المبين في الشكل رقم (I-11) أدناه.
ماذا يعني منحنى الفوائد الحدية ؟
• إنه منحنى الطلب على تطور نوعية البيئة، وهو يشير إلى العلاقة بين الرغبة في الدفع ونوعية تطوير البيئة المختار مثل منحنى الطلب على السيارات أو أية سلعة أخرى يمكن أن نفكر فيها والتي يتم إنتاجها وشراؤها في السوق، وكالعادة فإن الرغبة الحدية في الدفع مقابل كمية قليلة من التطور البيئي تكون مرتفعة عادًة، أما الرغبة الحدية للدفع مقابل التطور البيئي فهي منخفضة فيما لو كانت الكمية كبيرة .
• ويمثل منحنى الفائدة الحدية البديل بين التطور البيئي والأمور الأخرى التي يمكن أن نفعلها بالدخل. فعلى سبيل المثال يمكننا استخدام الدخل لشراء منتجات تباع في السوق لتعليم أولادنا أو لشراء التطورات البيئية الأخرى.
وعندما تؤثر إحدى الآثار الخارجية على السوق فيمكن استخدام منحنى الفائدة الحدية لتحديد المنافع التي سيحصل عليها المجتمع عندما نقوم بتخفيض الآثار الخارجية. فعلى سبيل المثال في الشكل المبين أعلاه يكون إجمالي المنافع للمجتمع هو تحسين البيئة بمقدار المسافة إلى E* وهي المساحة . A + B
إن هذا الأمر مشابه لقيامنا بقياس فائض المستهلك باستثناء الحالة التي لا نقوم فيها بشراء السلع في تلك السوق، لذا فإننا نستخدم كامل المساحة A + B لقياس المنافع بدلا من المساحة A فقط، وينفق علماء الاقتصاد البيئي طاقة و وقتًا كبيرين في محاولة تحديد شكل هذا المنحنى. وقد قاموا بتنفيذ هذا العمل لمجموعة من التطورات البيئية المختلفة التي تضم تحسين نوعية الهواء والماء وحماية الأصناف المهددة بالخطر والتنوع الحيوي وحماية الأراضي البرية وتنظيف تسرب النفط وغيرها .
لاحظ أن منحنى المنفعة الحدية مشابه للتكاليف الاجتماعية الحدية التي قمنا بدراستها سابقًا. وتظهر التكاليف الاجتماعية عندما تؤدي فعاليات الإنتاج إلى الأضرار البيئية. وتقوم المنافع الحدية بقياس احتياطي هذا الأمر، أي منافع إلغاء أو تخفيض التكاليف الاجتماعية، وهي تقيس نفس الشيء ولكن باستخدام مقاييس مختلفة.
الشكل رقم (I-11): منحنى المنفعة الحدية للتطورات البيئية
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص101.
-2-I3-2 التكاليف الاجتماعية
على الجانب الآخر من معاجلة تقييم التطورات البيئية تقع التكلفة، حيث إن تكلفة التطورات البيئية هي التكاليف المباشرة للفعاليات التي تحسن البيئة، وكما هو الأمر بالنسبة للمنافع البيئية فإننا نشير إلى ما تعلمناه سابقًا. ونلاحظ أن منحنى التكلفة الحدية يتجه نحو الأعلى، أي أن القليل من التنظيف البيئي قد يكون منخفض التكلفة ولكنه يصبح أكثر تكلفة كلما قمنا بتنفيذه.
الشكل رقم (I-12): منحنى التكاليف الحدية للتطورات البيئية
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص101.
لذا فإن منحنى التكلفة الحدية يمكن أن ينظم أو يقدر. وقد يكون مسطحًا ولكن نادرًا ما يجد الاقتصاديون أنه يتجه نحو الأسفل. إن المساحة C في الشكل (I-12) هي إجمالي تكاليف تنظيف البيئة في النقطة E*.وهي المساحة الواقع تحت منحنى التكاليف الحدية .
ما هي أنواع الفعاليات التي ينطوي عليها منحنى التكاليف الحدية ؟
• تخفيض الإنتاج (مثال قوانين المبيدات الحشرية التي قد تخفض أو تلغي استخدام نوع معين من المبيدات أو المواد الكيماوية الأخرى ولكن هذه التخفيضات قد تؤدي إلى تخفيض الإنتاج الزراعي أيضًا).
• نتائج مكافحة التلوث (أي تركيب تقانة جديدة لتخفيض التلوث الذي تطلقه الشركات أو عوادم السيارات).
• تخفيض الأضرار الحالية (أي تنظيف جميع مناطق تسرب النفط).
• الإنفاق الدفاعي (أي شراء المياه المعبأة و منقيات الهواء ومنبهات الدخان وغيرها).
وكما هو الأمر بالنسبة للمنافع الحدية فيمكن لمنحنى التكلفة الحدية أن يمثل مجالا واسعًا من الفعاليات لتخفيض انعكاس الآثار الخارجية البيئية. وتكمن النقطة الأساسية في أن التطورات البيئية لا تأتي بشكل مجاني، فهي تحتاج لتكلفة ويتوجب علينا الإنفاق من أجل تخفيض الآثار الخارجية .
-2-I3-3 المستوى المثالي للتلوث
نظرًا لأن التطورات البيئية تنطوي على منافع ومكاسب للمجتمع، فإن هناك معادلة بين كم التطورات الذي نرغب بتحقيقه وكم المال الذي نرغب بإنفاقه. إن الربط بين المنافع الحدية والتكاليف الحدية ضمن شكل واحد يوفر بعض المؤشرات حول البدائل وكم أن التطور البيئي كفء من الناحية الاجتماعية .
يظهر الشكل(I-12) أن نقطة التوازن تظهر عند (WTP*, E*) أو عندما تكون الفوائد الاجتماعية مساوية للتكاليف الاجتماعية. وتعرف هذه النقطة ما يسميه علماء الاقتصاد الكم المثالي أو كم التلوث الكفء اجتماعيًا، وهو يشير إلى أن التكاليف الاجتماعية يمكن أن تصل إلى الحد الأعظم من خلال تخفيض التكاليف إلى حد معين ولكن الكم الكبير من تخفيض التلوث مكلف جدًا بالنسبة لنا. وتسمى نقطة الكفاءة الاجتماعية بهذا الاسم لأنها تعظم صافي الرفاه الاجتماعي للتطورات البيئية.
هل يمكن لنا أن نعرف لماذا يتم تعظيم صافي التكاليف الاجتماعية عند هذه النقطة ؟ من أجل التعرف إلى هذا الأمر يجب تذكر أن صافي المنافع الاجتماعية للتطورات البيئية تقاس بالمساحة الواقعة تحت منحنى الطلب، وللتطوير إلى النقطة E* فإن تلك المساحة هي A + B + C. وكذلك الأمر فإن التكاليف الإجمالية للتطور البيئي حتى E*هي C.
الشكل رقم (I-13): الفوائد الحدية- التكاليف الحدية- الحد الأمثل للتطور البيئي
المصدر: دوناتو رومانو،الاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة،المركز الوطني للسياسات الزراعية، دمشق سوريا، 2003،ص102.
إن صافي المنافع الاجتماعية هي المنافع الإجمالية مطروحًا منها التكاليف الإجمالية أوTB-TC=NSB. لذا فإننا نحاول أن نعظم TB – TC، وعندئذ يكون السؤال في إيجاد النقطة الواقعة على محور السينات التي تعظم صافي المنافع الاجتماعية . وبدلا من اشتقاقها فنحن نلاحظ أنها النقطة التي تتساوى فيها المنافع الحدية مع التكاليف الحدية. وتظهر نقطة الكفاءة الاجتماعية عندما تكون MC = MB. وفي تلك النقطة يتم حساب صافي المنافع الاجتماعية على أنها A + B = A + B + C – C = NSB.
إن الفكرة القابلة بأن المنفعة الحدية تساوي التكلفة الحدية في نقطة الكفاءة الاجتماعية هي إحدى أهم المفاهيم التي أدخلها الاقتصاديون عند مناقشة القضايا المتعلقة بالبيئية، فهي تمثل جوهر البدائل وإن تحديد ما إذا كانت فوق أو تحت تلك النقطة هو المجهود الأساسي الذي يبذله الاقتصاديون اليوم.
لنفكر بهذا الأمر بطريقة أخرى ، حيث سنركز على النقطة E* للحظة، ولنفترض أننا قد قمنا بتنظيف البيئة إلى تلك النقطة، إذا قمنا بتنظيف البيئة بشكل أكثر من ذلك فتكون منفعة ذلك التنظيف الزائد أقل من تكلفته، لاحظ أننا نركز الآن فقط على ذلك التنظيف الزائد. ولكن تكاليف ذلك التنظيف الزائد أكبر من فوائده نظرًا لأن منحنى التكاليف الحدية فوق منحنى المنافع الحدية، وبالتنظيف أكثر قليلا يمكنك أن تخفض صافي المنافع الاجتماعية نظرًا لأن التكاليف تفوق المنافع.
وبشكل مشابه فكر بما سيحدث لو قمنا بتخفيض تنظيف البيئة بشكل أقل من النقطة E*، عندئذ تصبح المنافع الحدية أعلى من التكاليف الحدية للوحدة الأخيرة من التنظيف، وهذا يعني أنه يمكنك أن تكسب المزيد من صافي التكاليف الاجتماعية بالتنظيف أكثر بقليل.
بكلا الطريقتين سواء أكانت أدنى أو أعلى من نقطة الكفاءة الاجتماعية فإننا لا نقوم بتعظيم صافي الفوائد الاجتماعية، فالمخاوف حول تنظيف البيئة أو تطويرها غالبًا ما تظهر سواء أكنا فوق تلك النقطة أو تحتها، أو بمعنى آخر سواء أوفر التنظيف الإضافي منافع أكثر من التكاليف أم لا، وهذا بالتأكيد يشل تحليل المنفعة – التكلفة .
يظهر الشكل (1-12) أنه عند وجود الآثار الخارجية فإن التطورات البيئية غالبًا ما تكون أكثر ملائمة لنا، وتظهر المخاوف السياسية غالبًا عندما نبدأ بتوزيع المسؤوليات أو عندما نقدر منافع وتكاليف تلك التطورات البيئية وعندما نقرر من يجب أن يتمتع بالمنافع ومن يجب أن يتحمل التكاليف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق